أنباء اليوم
الأحد 22 ديسمبر 2024 04:30 صـ 21 جمادى آخر 1446 هـ
 أنباء اليوم المصرية
رئيس التحريرعلى الحوفي

وجع الذاكرة


بقلم الأديبة الجزائرية سحر القوافي
من رواية الأوراق المبعثرة

لأول مرة وبجرأة لم نألفها فيها..أمسكت امل القلم بأناملها المرتعشة التي تعكس اضطراب خلجات روحها ..لتصب على الدفتر أوجاعها الغافية وخواطرها التي باتت تجبرها على البوح بخفايا وأسرار حياتها..ها هي تقف في مواجهة مع ذاتها..وهي التي عودتنا على كتمان خواطرها ومشاعرها ..راحت امل تخط ما تبعثر من كلمات وحروف لملمت بها بعضا من بقايا الجراح الغائرة التي تكدست على صدرهامن سنين..لم تكن امل تدري ان تلك المواجع ستلتهب يوما وستحرق ستار الصمت العتيد..وأن رمادها سيتناثر على أوراق دفاترها..كوابل من المطر راحت الذكريات تتهاطل عليها فتغرق حاضرها المعتم بحجب الإخفاق والأسى..ولجت دوامة خريفية عنيفةلا مهرب منهاوانهالت عليها الخواطر فحاولت أن تجمعها على الورق..ا
وكتبت امل باكورة خواطرها وهي تضغط على القلم بأناملها بشدة وقد تغيرت قسمات وجهها ولفها شحوب مريع..وبدأ جسمها يتعرق..وطفرت الدموع الحارة التي كانت محتبسة من عينيها تنساب على خديها مدرارا ..
كتبت أمل رسالة اعتراف إلى والدها المسن تقول فيها:
وجع ...وجع...وجع
يتقاطر في روحي كوابل من مطر
وجع ممتد في الزمان والقدر
تناسته الأقدار فأبقاني احتضر
أعذرني يا ابي ..وعدتك ألا أبكي..ولكن هم الزمان أبكاني فليس بوسعها الا تصيح أخزاني..فهل أعلمك أني أبكي حتى في الحلم..وأن وسادتي تبتل كل ليلة بعبراتي وأشجاني..
على وجهي ابتسامة جوفاء أرسمها كلما التقيناعنوان سعادة لم أتذوقها..وسكينة لم ارتشفها..لقد أضعت في الهوى عنواني..
سامحني يا أبي لأني احترقت وترمدت..وكتمت الدخان بصدري حتى لا تشم رائحته في أنفاسي..لقد وعدتك ألا أبكي..ولكني بكيت..حتى جفت دموعي..بكيت حتى أدركني الصبح..وذابت الشموع واشتعلت الجراح..
اعذرني يا أبي لأني أخفيت عنك وجعي بابتسامة تجر خلفها قوافل من الأتراح..من الألم ..من السقم..من الأسى المعتق الدفين والسهاد..ليلي لم يكن يشبه الليالي..خناجر الوجع تنغرز في كياني.عصورمن الكمد تمتد في وتبني ..وابل جارف ينهمر في روحي يا أبي..لم أعرف كيف أجففه ولا كيف أفرغه أو أوقفه..إني فشلت في تضميد جراحي ..مجزرة رهيبة مشرشة بصدري وأقداري..هموم تعتم ليلي ونهاري..وتغبش أسراري..ماذا لو أخبرتك أني نسيت لون الفرح ومذاق الليمون المعسل الذي كنت تعده لي في ليالي الشتاء الباردة..وأنا أرقص بين الحروف والسطور كفراشة الربيع..
ماذا لو أخبرتك عن الأزهار التي كنت تقطفها من بستان بيتنا لتزين بها مكتبي إنها يبست ولم يتبق منها غير الأشواك التي أدمت أناملي..وبترت وهج يراعي..
هل تذكر ذاك الزمن الجميل الذي كنت أسامر فيه الحرف والدفتر والقمر المتوهج والأمنيات الربيعية ..وكأني ألتقط نجوم السماء لأنظم بها عقدا أقلده نحري..وأتوج به أيامي المعبأة بالحياة..واليوم يسامرني الهم والكمد والأشجان..
هل يحق لي أن أعلمك يا أبي عن المكنونات السجينة بين ضلوعي..لقد فزت بكل الشهادات المعرفية التي صبوت إليها ولكني أهدرت جمالي وشبابي وجهودي ورسبت في شهادة القلب..وجهلت أنها وعاء الحياة..ربما يحق لي اليوم أن أسند رأسي على صدرك لا لأنام كما كنت أفعل..بل لأبكي وأغتسل من أذران الشجن..وأتطهر من ترسبات الهم العالقة بأعماقي..لست أدري إن كان يحق لي أن أعلمك بأني صلت في كل مراتع الحياة الرحبة وخوابيها شامخة الرأس مزهوة بالفلاح والتوفيق..غير إني فشلت في إيجاد السكينة والهناء..وأن أملي قد يئس وأن صبري قد تاه ورحل..
إعذرني يا والدي لأني أخفيت عنك وجع الروح وخدعتك بابتسامة الجسد الجوفاء..لأني خفت عليك من ثقل أوجاعي فليس بوسع أحد أن يتحملها..أردت أن أبقي السعادة تداعب روحك الجميلة وتتوهمها في طيف أميرتك المدللة كما كان يحلو لك أن تناديني..ولم أشأ أن تتململ السكينة التي تغمر قلبك الطيب الرقيق..
ٱه يا أبي..لو تدرك أن الرجل الذي قلدته إمارة الروح هو ذاته الذي تفنن في إيذائي..لقد نقش كل أبجديات الألم وصوره في فؤادي..ولم يكتف حتى رسمها في ظلال روحي الممزقة فأمسى ظلي يجر خلفه أطياف الأسى..
لا أدري كم طعنة في صدري بمقدورها أن تشفي غليله وتطفىء غله..لا أدري لأني نسيت عد الأرقام..ونسيت تعاقب الفصول والأيام..ونسيت عمري..ولكني يا أبي ما نسيت أني من الوجع قد اكتفيت..سامحني يا أبي.
يتبع..من رواية الأوراق المبعثرة..بقلم الأديبة الجزائرية سحر القوافي