مفتي الجمهورية : إرادة الله ورحمته شاءت أن خلقنا مختلفين في الألوان والألسنة والمعتقدات والأفكار
قال فضيلة الأستاذ الدكتور شوقي علام -مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم: إن إرادة الله الغالبة وحكمته العالية ورحمته الشاملة شاءت أن خلقنا مختلفين في الألوان والألسنة والعقول والمعتقدات والأفكار؛ قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِين) [الروم: 22].
وأوضح فضيلة المفتي أن الله تعالى بيَّن في كتابه العزيز أن هذا الاختلاف والتنوُّع لم يكن عبثًا، وإنما كان لغاية ولحكمة ينبغي أن نقف عندها، وأن نتدبَّر صنع الله الدقيق في خلقه، فالله تعالى منزَّه في خلقه لهذا الكون وتدبيره له عن اللهو والعبث، حيث صرح الله تعالى في كتابه العزيز أنه لو شاء لخلق الناس على ملة واحدة واعتقاد واحد ودين واحد، لكن حكمته تعالى أبت إلا خلق الناس على نحو عجيب من التنوع والاختلاف، قال تعالى: (ولَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُم) [هود: 118، 119] وقال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُون) [النحل: 93].
جاء ذلك في كلمته التي ألقاها خلال فعاليات ملتقى القيم المشتركة بين أتباع الأديان، الذي انطلق اليوم لأول مرة بمدينة الرياض تحت مظلَّة رابطة العالم الإسلامي، حيث ألقى فضيلته الكلمة الرئيسية في المؤتمر.
وأكد فضيلة المفتي أنه إذا تأكد لدينا هذا المعنى الجليل وترسخ في وجداننا ما نبهنا إليه قرآننا العظيم، استطعنا أن ندرك بوضوح أن الأصل في العلاقة بين بني الإنسان –أيًّا كان لونهم أو دينهم أو لغتهم– هو التعايش السلمي والتعاون الجاد من أجل ترسيخ القيم السامية المشتركة التي حثَّت عليها جميع الأديان ودعت إليها.
وأشار إلى أنه لو تأملنا وتدبَّرنا عشرات النداءات في القرآن الكريم التي بدأت بقوله تعالى: (يا أيها الناس) لعلمنا أن القرآن الكريم كان منفتحًا على جميع الناس والثقافات والحضارات والأديان من آمن به ومن لم يؤمن به، يخاطب عقولهم ووجدانهم بما بثه الله في الكون من آيات ومعجزات دالة على وحدانيته، من مثل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج: 73، 74] .
وأضاف فضيلة المفتي أن الله تعالى قد حثنا جميعًا على التعاون على عمل الخير وعلى البر والتقوى، من أجل استخراج خيرات الأرض وكنوزها والانتفاع بها، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) [البقرة: 29]. وقال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِين) [البقرة: 168]، موضحًا أن هذا الأمر الذي يشجعنا على عمارة الأرض والانتفاع بخيراتها، لا يمكن أبدًا أن يتحقق لو كانت العلاقة بين أهل الأديان هي التنافر والبغضاء، فلا يمكن أن يحثنا الله على عمارة الأرض إلا وهو يحثنا على المحبة وإرادة الخير للجميع دون استثناء، ويحثنا أيضًا على تعظيم المشتركات الدينية التي ينمو هذا التعاون في ظلالها ويثمر ثمراتٍ نافعةً لجميع بني الإنسان على حدٍّ سواء.
وتابع فضيلته: "لا شك أن ديننا الحنيف قد دعانا إلى التعايش السلمي مع كل من يختلف معنا في الدين والعقيدة، ودعانا أيضًا إلى احترام ودعم القيم المشتركة التي حثت عليها جميع الأديان، وهذه القيم المشتركة في القرآن الكريم تنقسم في الجملة إلى قسمين رئيسين؛ القسم الأول: يؤكِّد أننا جميعًا ننحدر من أصل واحد بل من نفس واحدة، وهذا يعني أننا جميعًا أخوة في الإنسانية، وفي ذلك يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]".
وبيَّن مفتي الجمهورية أن القسم الثاني للقيم المشتركة في القرآن الكريم: يؤكِّد وجود مشتركات أخلاقية واحدة بين جميع الأديان السماوية، وأهمها الإيمان بالإله الواحد ومنظومة الأخلاق المشتركة وأمهات الفضائل التي أكَّدت عليها الأديان جميعها، قال تعالى: (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [العنكبوت: 46].
وأوضح أن تحت هذين القسمين الرئيسين عشرات بل ربما مئات من القيم المشتركة التي نحتاج إلى إبرازها وتفعيلها وتنميتها من أجل أن يعم هذا العالم الأمن والسلام والطمأنينة، عِوضًا عن الحروب والصراعات التي خلَّفتها نظريات صدام الحضارات أو سيادة العالم بفكر أو دين معين، وما حصد العالم من ذلك إلا الخراب والدمار نتيجة هذه الأفكار والنظريات التي لا تمتُّ إلى الأديان بل ولا إلى الإنسانية المجردة بأدنى صلة.
وقال فضيلة المفتي: "لا شكَّ أن المسئولية الأخلاقية والدينية الملقاة على عاتق القادة الدينيين في العالم تجاه قضية دعم قيم التعايش المشتركة بين الأديان كبيرة وثقيلة؛ لأن القادة الدينيين على اختلاف أديانهم محل احترام وتقدير من جميع الناس بلا استثناء، نظرًا لما تخلَّقوا به من سمو الهدف ورفعة الرسالة، وأيضًا من التنزُّه عن الأطماع السياسية والدنيوية، ولما أقامهم الله فيه من مقام رفيع لنشر القيم والأخلاق السامية بين الناس".
وأضاف أنه لذلك كان لزامًا عليهم أن يقودوا مسيرة إصلاح الخطاب الديني، والابتعاد به عن دائرة العداء والصدام التي تبنَّتها بعض العقول المتطرفة التي نزعت إلى نشر القيم الشاذة المتشددة التي تتنزه عنها جميع الأديان، ومن أجل تحقيق هذه الغاية الكريمة السامية لا بدَّ من التعاون بين القادة الدينيين في العالم من أجل توحيد الرؤية وتحديد الوسائل المناسبة، وعمل برامج مدروسة ومنظمة من أجل جمع قلوب الجماهير الغفيرة على نبذ التعصب والعنصرية والبعد عن التمييز على أساس الدين، وقبل ذلك وبعده لا بد من ترسيخ ثقافة قَبول الآخر واحترام رأيه واعتقاده، وأيضا لا بدَّ من التعاون على المستوى العلمي والأكاديمي من أجل عمل مشروعات علمية وأبحاث علمية رصينة، تعمل على بلورة هذه القيم في صورة علمية صادقة وجادة، تدعم بالمنهج العلمي قيم التعايش المشترك التي دعت إليها جميع الأديان