أنباء اليوم
الأربعاء 26 مارس 2025 02:25 مـ 27 رمضان 1446 هـ
 أنباء اليوم
رئيس التحريرعلى الحوفي
دائرة الشارقة الرقمية تنال جائزة ”سيركولارو” للتحوُّل الرقمي في تكنولوجيا المعلومات وزير الخارجية يجري اتصالاً هاتفياً مع أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية مجلس الوزراء يعقد اجتماعه الأسبوعي ويبحث عددًا من الموضوعات الهامة أبرز مباريات التنس التي أشعلت الملاعب عبر التاريخ وزير الزراعة يشهد توقيع اتفاق مصري سعودي لإنتاج المحسنات والمخصبات الزراعية في النوبارية كلمة الرئيس السيسي خلال احتفالية وزارة الأوقاف بليلة القدر إنفينيكس تطلق مبادرة رمضان يجمعنا بالخير بالتعاون مع بنك الطعام المصري محافظ بني سويف يعقد اللقاء الأسبوعي مع المواطنين ويوجه بحلول عاجلة لشكاواهم رئيس جامعة المنوفية يكرم الكليات الفائزة فى مسابقة التميز البيئى محافظ بني سويف يفتتح الوحدة الصحية بالحي الرابع بمدينة بني سويف الجديدة محافظ بني سويف يفتتح عدد من مشروعات رصف الشوارع والطرق الأمانة العامة للجامعة العربية توقع مذكرة تعاون مع مؤسسة أهل مصر للتنمية

بناء شخصية الشباب المسلم.. بقلم فضيلة الشيخ/ عبدالمنعم الطاهر من علماء الأزهر الشريف

الشيخ عبد المنعم الطاهر
الشيخ عبد المنعم الطاهر

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ:70-71]. أَمَّا بَعْدُ:

فَيَا مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ: إِنَّ نَهْضَةَ الْأُمَمِ تَقُومُ عَلَى بِنَاءِ الْإِنْسَانِ، فَالْأُمَّةُ مَجْمُوعَةُ إِنْسَانٍ، وَالْمُجْتَمَعُ فَرْدٌ مُتَكَرِّرٌ، فَبِالْبَدْءِ بِلَبِنَةِ الْفَرْدِ إِتْمَامٌ لِجِدَارِ الْمُجْتَمَعِ.

وَإِنَّ تَرْكِيبَةَ شَخْصِيَّةِ الشَّابِّ الْمُسْلِمِ لَا بُدَّ أَنْ تُؤَسَّسَ عَلَى قَاعِدَةٍ ثَابِتَةٍ صَحِيحَةٍ، فَتُبْنَى عَلَى أَسَاسٍ مِنْ إِيمَانٍ، وَتَعْتَمِدُ عَلَى رُكْنَيِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَتُحَاطُ بِسِيَاجٍ مِنَ الْأَخْلَاقِ وَالسُّلُوكِيَّاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ.

إِنَّ أَهَمِّيَّةَ تَحْدِيدِ مَلَامِحِ شَخْصِيَّةِ الشَّبَابِ الْمُسْلِمِ الَّتِي يَتَحَقَّقُ بِهَا مُسْتَقْبَلُ الْإِسْلَامِ الْمَنْشُودُ تَأْتِي مِنَ اعْتِبَارِ كُلِّ فَرْدٍ مَسْؤُولًا عَنْ نَفْسِهِ أَوَّلًا، فَلَا يُعَوِّلُ عَلَى غَيْرِهِ فِي صَلَاحِ نَفْسِهِ، وَلَا يَعْتَذِرُ بِفَسَادِ مَنْ حَوْلَهُ؛ فَإِنَّ الْمَوْلَى -جَلَّ شَأْنُهُ- يَقُولُ: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ)[الْمُدَّثِّرِ:38]، وَرَسُولُنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً؛ تَقُولُونَ: إِنَّ أَحْسَنَ النَّاسِ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظُلَمُوا ظَلَمْنَا. وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنَّ أَحْسَنَ النَّاسِ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ).

وَإِنَّ الشَّبَابَ الْمُسْلِمَ عَصَبُ حَيَاةِ الْأُمَّةِ، وَأَمَلُهَا الْمَعْقُودُ؛ فَهُمْ لَبِنَةُ الْبِنَاءِ، وَأَدَاةُ الْإِنْجَازِ وَالتَّقَدُّمِ، إِذَا صَلَحُوا سَارَتْ عَجَلَةُ الْحَضَارَةِ قُدُمًا، وَإِنْ فَسَدُوا عَادَتْ أَدْرَاجَهَا، وَانْزَوَتْ تَبْكِي حَالَهَا، وَانْتَحَبَتْ تَنْدُبُ مَآلَهَا.

: إِنَّ بِنَاءَ شَخْصِيَّةِ شَابٍّ مُسْلِمٍ يَمُرُّ بِعَوَامِلَ مُخْتَلِفَةٍ، فَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأُسْرَةِ وَالْبِيئَةِ الْمُجْتَمَعِيَّةِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالشَّخْصِ نَفْسِهِ.

فَالْفَرْدُ يَرْضَعُ بَعْضَ الْأَخْلَاقِ وَالصِّفَاتِ مِنْ مَهْدِهِ مَعَ لَبَنِ أُمِّهِ، وَتَتَشَكَّلُ شَخْصِيَّتُهُ عَلَى يَدِ أَبَوَيْهِ، فَلِذَلِكَ كَانَتِ الْأُسْرَةُ هِيَ نُقْطَةَ الِانْطِلَاقِ.

ثُمَّ تَأْتِي الْعَوَامِلُ الْبِيئِيَّةُ: وَالَّتِي مِنْهَا مَا هُوَ وِرَاثِيٌّ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُكْتَسَبٌ مِنْ مُعْتَرَكِ الْحَيَاةِ.

فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقْعُدُ بِنَفْسِهِ عَنْ تَزْكِيَتِهَا، وَيَتَوَانَى عَنْ إِكْسَابِهَا الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةَ؛ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ الْأَخْلَاقَ وِرَاثِيَّةٌ يُطْبَعُ عَلَيْهَا الْفَرْدُ فِي صِغَرِهِ. فَيَجْنِي عَلَى نَفْسِهِ بِهَذَا، وَيَتَقَوْقَعُ فِي دَائِرَةٍ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا.

وَالْحَقُّ: أَنَّ الْأَخْلَاقَ وَالصِّفَاتِ مِنْهَا مَا هُوَ جِبِلِّيٌّ فِطْرِيٌّ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ: "إِنَّ فِيكَ خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ؛ الْحِلْمَ وَالْأَنَاةَ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا أَتَخَلَّقُ بِهِمَا، أَمِ اللَّهُ جَبَلَنِي عَلَيْهِمَا؟ قَالَ: بَلِ اللَّهُ جَبَلَكَ عَلَيْهِمَا، قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ"(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ).

وَمِنْهَا مَا يُمْكِنُ اكْتِسَابُهُ وَالتَّخَلُّقُ بِهِ، فَيُعَالِجُ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ عَلَى خُلُقٍ مِنَ الْأَخْلَاقِ حَتَّى تَسْتَقِيمَ لَهُ، وَيَتَكَلَّفَ الِاتِّصَافَ بِصِفَةٍ حَسَنَةٍ حَتَّى يَأْلَفَهَا، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُ الْمَعْصُومِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّهُ مَنْ يَسْتَعِفَّ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

وَعَلَيْهِ؛ فَيَنْبَغِي لِلشَّابِّ الْمُسْلِمِ أَنْ يَنْظُرَ لِمَا جَبَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ فَيَتَحَرَّرَ مِنْهَا، وَمَا طُبِعَ عَلَيْهِ مِنْ حَسَنَةٍ فَيُنَمِّيَهَا، وَمَا لَيْسَ عِنْدَهُ مِنَ الْأَخْلَاقِ فَيَسْعَى لِكَسْبِهَا، فَذَلِكَ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ مَا دَامَ أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ أَرْشَدَ إِلَيْهَا. فَيَتَخَلَّى ثُمَّ يَتَحَلَّى.

كَمَا أَنَّ مِنْ أَهَمِّ عَوَامِلِ الْبِيئَةِ الَّتِي تُؤَثِّرُ فِي صِيَاغَةِ الشَّخْصِيَّةِ الْمُسْلِمَةِ: الْمَدْرَسَةَ؛ وَالَّتِي يَقْضِي فِيهَا وَقْتًا طَوِيلًا يَبْتَعِدُ فِيهِ عَنْ أَهْلِهِ، وَيُخَالِطُ أَصْنَافًا مِنْ أَقْرَانِهِ، وَيَرْتَشِفُ مِنْهَا مُخْتَلَفَ الْمَعَارِفِ، وَيَكْتَسِبُ مِنْهَا كَثِيرًا مِنَ الصِّفَاتِ وَالْأَخْلَاقِ؛ فَيَتَأَثَّرُ وَيُؤَثِّرُ، وَيَعُودُ إِلَى بَيْتِهِ مُحَمَّلًا بِجِرَابٍ مِنَ الْأَخْلَاقِ؛ الصَّالِحِ مِنْهَا وَالْفَاسِدِ.

كَمَا أَنَّ لِلْمُجْتَمَعِ دَوْرَهُ فِي صِيَاغَةِ شَخْصِيَّةِ الشَّابِّ الْمُسْلِمِ، فَإِذَا كَانَ الْمُجْتَمَعُ الْمُحِيطُ بِالشَّابِّ سَوِيًّا اسْتِمَالَتْهُ إِلَيْهَا الْهِدَايَةُ، وَإِنْ كَانَ الْمُجْتَمَعُ غَوِيًّا فَلَا بُدَّ أَنْ تَلْسَعَهُ عَقَارِبُ الضَّلَالِ وَالْغِوَايَةِ.

أَمَّا الْعَوَامِلُ الْفَرْدِيَّةُ الشَّخْصِيَّةُ: فَهِيَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالشَّابِّ نَفْسِهِ، وَمَا يَكْتَسِبُهُ مِنْ مَسِيرَتِهِ الشَّبَابِيَّةِ.

وَمِنْ هَذِهِ الْعَوَامِلِ: الْعِلْمُ وَالْقِرَاءَةُ، وَالِاطِّلَاعُ وَالثَّقَافَةُ، فَالْعِلْمُ أُسُّ الْبِنَاءِ، وَالْقِرَاءَةُ أَرْكَانُهُ. وَالْعِلْمُ يَكْشِفُ لِلشَّابِّ طَرِيقَ الصَّوَابِ، وَيُوَضِّحُ لَهُ مَسَالِكَ الْحَيَاةِ، فَتَثْبُتُ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ قَدَمُهُ، وَتَتَمَيَّزُ شَخْصِيَّتُهُ بِالْفِكْرِ الْمُنِيرِ، وَالْعِلْمِ الْمُفِيدِ. وَلَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ نَبِيَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالِاسْتِزَادَةِ مِنْ شَيْءٍ خَلَا الْعِلْمِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا)[طه:114].

وَإِنَّ الْقِرَاءَةَ هِيَ مُبْتَدَأُ هَذَا الدِّينِ، وَإِيقَاظُ الْعَقْلِ وَتَغْذِيَتُهُ هِيَ شَرَارَةُ هَذِهِ الرِّسَالَةِ، فَأَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنْ كَلَامِ رَبِّنَا -جَلَّ فِي عُلَاهُ- هُوَ قَوْلُهُ: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)[الْعَلَقِ:1-5]؛ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ بِدَايَةَ الْبِنَاءِ هُوَ الْعِلْمُ، وَأُولَى خُطُوَاتِ التَّقَدُّمِ هِيَ الْقِرَاءَةُ وَتَنْمِيَةُ الْفِكْرِ.

وَقَدْ قِيلَ: "مَنْ كَثُرَ أَدَبُهُ وَعِلْمُهُ عَلَا شَرَفُهُ وَإِنْ كَانَ وَضِيعًا، وَبَعُدَ صِيتُهُ وَإِنْ كَانَ خَامِلًا، وَسَادَ النَّاسَ وَإِنْ كَانَ غَرِيبًا، وَكَثُرَتْ حَوَائِجُ النَّاسِ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا". وَقَالُوا أَيْضًا: "مَنْ دَأَبَ فِي طَرِيقِ الْعِلْمِ وَالْأَدَبِ أَدْرَكَ حَاجَتَهُ، وَمَلَكَ نَاصِيَتَهُ، وَنَبُلَ قَدْرُهُ، وَنَبُهَ ذِكْرُهُ".

يُحْكَى أَنَّ الْمَأْمُونَ كَانَ جَالِسًا فِي دَارِهِ؛ إِذْ دَخَلَ فَتًى أَبْرَعُ النَّاسِ زِيًّا وَهَيْئَةً وَوَقَارًا، وَهُوَ لَا يَلْتَفِتُ؛ اعْتِزَازًا بِنَفْسِهِ. فَقَالَ الْمَأْمُونُ لِيَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ: "يَا يَحْيَى! إِنَّ هَذَا الْفَتَى لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ شَرِيفًا نَسِيبًا أَوْ نَحْوِيًّا". ثُمَّ بَعَثَ مَنْ يَتَعَرَّفُ ذَلِكَ مِنْهُ، فَعَادَ الرَّسُولُ إِلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ نَحْوِيٌّ. فَقَالَ الْمَأْمُونُ: "يَا يَحْيَى، أَعَلِمْتَ أَنَّ عِلْمَ النَّحْوِ قَدْ بَلَغَ بِأَهْلِهِ مِنْ عِزَّةِ النَّفْسِ، وَعُلُوِّ الْهِمَّةِ مَنْزِلَةَ الْأَشْرَافِ فِي نَسَبِهِمْ. يَا يَحْيَى! مَنْ قَعَدَ بِهِ نَسَبُهُ، نَهَضَ بِهِ أَدَبُهُ". قَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-:

كُنِ ابْنَ مَنْ شِئْتَ وَاكْتَسِبْ أَدَبًا *** يُغْنِيكَ مَحْمُودُهُ عَنِ النَّسَبِ

هَلْ يَنْفَعُ الْمَرْءَ فِي فَهَاهَتِهِ *** مِنْ عَقْلِ جَدٍّ مَضَى وَعَقْلِ أَبِ

مَا الْمَرْءُ إِلَّا ابْنُ نَفْسِهِ فَبِهَا *** يُعْرَفُ عِنْدَ التَّحْصِيلِ لَا النَّسَبِ

فَمَا أَعْظَمَ الِاشْتِغَالَ بِالْعِلْمِ وَالْقِرَاءَةِ فِي زَمَنٍ طَغَتْ فِيهِ الْمَادِّيَّاتُ، وَاسْتَوْلَتْ وَسَائِلُ اللَّهْوِ عَلَى أَوْقَاتِ الشَّبَابِ، وَتَرَاجَعَ فِيهِ الْوَعْيُ وَالْعِلْمُ، وَتَقَلَّصَتْ فِيهِ الْقِرَاءَةُ.

وَمِنْ أَهَمِّ عَوَامِلِ صِنَاعَةِ شَخْصِيَّةِ الشَّابِّ الْمُسْلِمِ: الصُّحْبَةُ وَالْأُسْوَةُ، فَإِنَّ الصَّاحِبَ سَاحِبٌ. وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ:

إِذَا كُنْتَ فِي قَوْمٍ فَصَاحِبْ خِيَارَهُمْ *** وَلَا تَصْحَبِ الْأَرْدَى فَتَرْدَى مَعَ الرَّدِي

عَنِ الْمَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ *** فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارِنِ يَقْتَدِي

إِذَا مَا رَأَيْتَ الشّرَّ يَبْعَثُ أَهْلَهُ *** وَقَامَ جُنَاةُ الشّرِّ بِالشّرِّ فَاقْعُدِ

وَإِذَا اتَّخَذَ الشَّابُّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُسْوَةً، وَالصَّحَابَةَ قُدْوَةً، فَقَدْ فَازَ وَأَفْلَحَ، فَاللَّهُ -تَعَالَى- يَقُولُ: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)[الْأَحْزَابِ:21]. وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- يَقْتَدُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ فِي كُلِّ شُؤُونِهِ، فَفِي الْحَدِيثِ: "بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ إِذْ خَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْقَوْمُ أَلْقَوْا نِعَالَهُمْ، فَلَمَّا قَضَى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلَاتَهُ قَالَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى إِلْقَاءِ نِعَالِكُمْ؟ قَالُوا: رَأَيْنَاكَ أَلْقَيْتَ نَعْلَيْكَ فَأَلْقَيْنَا نِعَالَنَا، فَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا، أَوْ قَالَ: أَذًى"(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ).

وَفِي زَمَنِنَا فَقَدَ كَثِيرٌ مِنَ الشَّبَابِ الْقُدْوَةَ الْحَسَنَةَ، وَتَلَقَّفَتْهُمْ وَسَائِلُ الْإِلْهَاءِ الْكَثِيرَةُ، أَوْ جَذَبَتْهُمْ قُدْوَةٌ سَيِّئَةٌ إِلَيْهَا، فَبِإِمْكَانِ الشَّابِّ الْيَوْمَ أَنْ يُصَادِقَ مَنْ يَشَاءُ وَإِنْ كَانَ فِي مَنْزِلِهِ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى خُرُوجٍ لِلْأَسْوَاقِ، أَوْ لِقَاءَاتٍ فِي الْمَقَاهِي، فَقَدْ أَوْصَلَتْ وَسَائِلُ التَّوَاصُلِ أَصْدِقَاءَهُ إِلَيْهِ وَهُوَ عَلَى فِرَاشِهِ، وَأَضْحَى يَتَأَثَّرُ أَوْ يُؤَثِّرُ وَهُوَ قَاعِدٌ فِي مَكَانِهِ.

فَدُونَكَ -أَيُّهَا الشَّابُّ- مَنْبَعَ الْقُدْوَةِ الصَّافِيَ، وَمَعِينَ الِاهْتِدَاءِ الْعَذْبَ، وَلَا تَغُرَّنَّكَ كَثْرَةُ الْمَوَارِدِ، وَاجْعَلْ طَرِيقَ الْهُدَى سَبِيلَكَ، وَرَسُولَ الرَّحْمَةِ هَادِيَكَ وَدَلِيلَكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ.

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ...

: إِنَّ الشَّبَابَ الْمُسْلِمَ هُوَ الْجِيلُ الرَّائِدُ الَّذِي يَتَحَقَّقُ عَلَى يَدَيْهِ النَّصْرُ، وَهُمُ الْفِئَةُ الْأَكْثَرُ عَدَدًا فِي الْمُجْتَمَعِ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ لَهَا التَّأْثِيرُ الْقَوِيُّ وَالْفَعَّالُ، وَنَالُوا جَانِبًا مِنَ اهْتِمَامِ الْمُصْطَفَى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَلَقَدْ كَانَ نَادَاهُمْ بِقَوْلِهِ: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ". وَتَعَهَّدَهُمْ بِالنَّصِيحَةِ، وَأَوْصَاهُمْ وَأَوْصَى بِهِمْ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ كَانَ إِذَا رَأَى الشَّبَابَ قَالَ: "مَرْحَبًا بِوَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ أَوْصَانَا رَسُولُ اللَّهِ أَنْ نُوَسِّعَ لَكُمْ فِي الْمَجْلِسِ، وَأَنْ نُفْهِمَكُمُ الْحَدِيثَ؛ فَإِنَّكُمْ خُلُوفُنَا، وَأَهْلُ الْحَدِيثِ بَعْدَنَا". وَكَانَ يُقْبِلُ عَلَى الشَّابِّ فَيَقُولُ لَهُ: "يَا ابْنَ أَخِي، إِذَا شَكَكْتَ فِي شَيْءٍ فَسَلْنِي حَتَّى تَسْتَيْقِنَ؛ فَإِنَّكَ إِنْ تَنْصَرِفْ عَلَى الْيَقِينِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تَنْصَرِفَ عَلَى الشَّكِّ"(رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، وَأَصْلُهُ فِي السُّنَنِ مُخْتَصَرًا).

وَإِنَّ تَنْشِئَةَ الشَّابِّ عَلَى الطَّاعَةِ، وَبِنَاءَ شَخْصِيَّتِهِ عَلَى أَسَاسِ الْعِبَادَةِ، تَأْهِيلٌ لَهُ أَنْ يَسْتَظِلَّ بِظِلِّ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: الْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ..." الْحَدِيثَ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ إِهْدَارَ مَرْحَلَةِ الشَّبَابِ، وَالتَّقْصِيرَ فِي اسْتِغْلَالِهَا هُوَ الْغَبْنُ الْعَظِيمُ، وَالْخُسْرَانُ الْمُبِينُ، فَالشَّبَابُ مَحَطَّةُ الْعَمَلِ وَالْإِنْجَازِ، وَالْحَيَوِيَّةِ وَالنَّشَاطِ؛ وَلِذَلِكَ كَانَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ سِيرِينَ -رَحِمَهَا اللَّهُ- تَقُولُ: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، خُذُوا مِنْ أَنْفُسِكُمْ وَأَنْتُمْ شَبَابٌ؛ فَإِنِّي -وَاللَّهِ- مَا رَأَيْتُ الْعَمَلَ إِلَّا فِي الشَّبَابِ".

وَقَالَ يُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "بَادِرُوا يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ بِالصِّحَّةِ قَبْلَ الْمَرَضِ؛ فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ أَحْسُدُهُ إِلَّا رَجُلٌ أَرَاهُ يُتِمُّ رُكُوعَهُ وَسُجُودَهُ، وَقَدْ حِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَ ذَلِكَ".

فَاللَّهَ اللَّهَ يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ أَنْ تَخِيبَ فِيكُمُ الظُّنُونُ، أَوْ يَنْقَلِبَ الْبَصَرُ عَنْكُمْ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ، فَأَنْتُمْ مَعْقِدُ الْأَمَلِ، وَبَلْسَمُ الْأَلَمِ، وَشِرْيَانُ الْأُمَّةِ، وَعَصَبُ الْحَيَاةِ، فَلَا تَقْعُدَنَّ بِكُمُ الْهِمَمُ، وَلَا تَتَقَاصَرُوا عَنِ الْوُصُولِ لِلْقِمَمِ. وَاجْعَلُوا كِتَابَ اللَّهِ أَمَامَكُمْ، وَرَسُولَ اللَّهِ أُسْوَتَكُمْ، وَصَحْبَهُ وَالصَّالِحِينَ قُدْوَتَكُمْ، وَكُونُوا خَيْرَ خَلَفٍ لِخَيْرٍ سَلَفٍ.

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.

اللَّهُمَّ احْفَظْ شَبَابَ الْمُسْلِمِينَ، وَخُذْ بِأَيْدِيهِمْ إِلَى صَلَاحِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ.