أَخلاقِـيـَّاتُ الـتـجارَة في الإِســلامِ
الحَمْدُ للهِ الذِي أَحَلَّ لِعِبَادِهِ البَيْعَ والشِّرَاءَ، وجَعَلَهُما سَبَباً مِنْ أَسْبَابِ اليُسْرِ والرَّخاءِ، وطَرِيقاً مَشْروعاً لِلْرِّبْحِ والثَّراءِ. وبَعْدُ: خَلَقَ الله الخَلْقَ وجَعَلَ حَاجَةَ بَعْضِهمْ إِلَى بَعْضٍ دَائمَةً، وتَبَادُلَ المَصَالِحِ بَينَهُمْ حَالَةً قَائمَةً، وجَعَلَ لِذَلِكَ طُرُقاً وأَسْبابَاً، ولِلْخَيْرِ أَهْلاً وطُلاَّباً، ومِمَّا شَرَعَهُ عَزَّوَجلَّ فِي ذَلِكَ التِّجَارَةُ بِالبَيْعِ والشِّرَاءِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ أَسْبابِ البَرَكَةِ والنَّماءِ، أَلاَ وإِنَّ لِلتِّجارَةِ فِي الإِسلاَمِ أَخْلاَقاً وآدَاباً، ولِلْرِّبْحِ طُرُقاً مَشْروعَةً وأَبواباً، ومِنْ أَعْظَمِ مَعايِيرِها وأَخْلاَقِها، وأَجَلِّ مَبادِئها وآدابِها، السَّماحَةُ فِي الأَخْذِ والعَطاءِ، والسُّهولَةُ فِي البَيْعِ والشِّراءِ، فَعَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: ((رَحِمَ اللهُ رَجُلاً سَمْحاً إِذَا بَاعَ، سَمْحاً إِذا اشْتَرَى، سَمْحاً إِذا قَضَى، سَمْحاً إِذا اقتَضَى))، دُعاءٌ مِنَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بِالرَّحْمَةِ لِمَنْ جَعَلَ السَّماحَةَ خُلُقاً أَصِيلاً مِنْ أَخْلاَقِهِ، يَتَعاطَى عَلَى أَسَاسِها مَعَ جَمِيعِ مَنْ حَولَهُ مِنْ أَهلِهِ ورِفَاقِهِ، يَعقِدُ بِها فِي البَيْعِ والشِّراءِ صَفَقاتِهِ، ويَجْعَلُها نُصْبَ عَينَيْهِ إِذَا وَفَى أَوِ استَوفَى مُستَحقَّاتِهِ، فَمَا أَرْوَعَهُ مِنْ مَنْهَجٍ يَسْعَدُ بِهِ المُتَعامِلُونَ، ويَستَرِيحُ لِنَتائجِهِ المُؤْمِنونَ، مَنْهَجٌ النَّاسُ أَحْوَجُ مَا يَكونونَ إِلَيهِ وقَدَ عَصَفَتْ بِهِم رِياحُ الغَلاَءِ، التِي لَمْ تَقْتَصِرْ عَلَى بَلَدٍ دُونَ آخَرَ، ولَمْ يَسْلَمْ مِنْ لَفْحِها مُقِيمٌ أَو مُسَافِرٌ، لِمَا لِغَلاَءِ الأَسْعارِ مِنْ آثَارٍ سَيِّئَةٍ عَلَى الفَرْدِ والمُجتَمَعِ؛ حَيْثُ يَعْجَزُ الفَقَيِرُ عَنْ شِراءِ مَا لاَ غِنَى لَهُ عَنْهُ، وقَدْ يَتَحَمَّلُ آخَرونَ دُيونًا يَعْجَزونَ عَنْ أَدَائها، ولِذَلِكَ فَإِنَّ المُتأَمِّلَ فِي النُّصُوصِ الشَّرعِيَّةِ، بَآيَاتِها القُرآنِيَّةِ وأَحَادِيثِها النَّبَوِيَّةِ، يَجِدُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ الإِسْلاَمِيَّةَ قَدْ عَالَجَتْ عِلاَجاً نَاجِعاً هَذِهِ الأَسْبابَ، لِتَبقَى الأُمَّةُ هَانِئَةً مُطْمَئنَّةً عَلَى رِزقِها وقُوتِها، فَقَدْ حَثَّ الإِسْلاَمُ عَلَى حُسْنِ النَّظَرِ فِي اكتِسابِ المَالِ، مِنْ طُرُقِهِ المُباحَةِ وأَسَالِيبِهِ المُناسِبَةِ، ودَعَا لِلْمُنَافَسَةِ فِي عَرْضِ السِّلَعِ والبَدَائلِ، تَأْصِيلاً لِمَبْدَأِ الوِقَايَةِ التِي تَقْطَعُ سُبُلَ الاحتِكَارِ، ولِيَكونَ لِلمُستَهلِكِ أَكْثَرُ مِنْ خِيارٍ، فَيأْخُذُ مَا لَدَيْهِ بِهِ استِطاعَةٌ واقتِدارٌ، يَقُولُ اللهُ تَعالَى: ((فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ))(2)، وَجاءَتْ نُصُوصُ السُّنَّةِ المُطَهَّرَةِ حَاثَّةً المُسلِمَينَ عَلَى مُزاوَلَةِ التِّجَارَةِ والزِّرَاعَةِ والصِّناعَةِ بِمِهَنِها المُختَلِفَةِ، لأَنَّ بِها قِوامَ الأَرضِ، وصَلاَحَ أُمُورِ العِبَادِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وتَيْسِيرَ حَاجَاتِهمُ المَعِيشِيَّةِ، فَقَدْ جَاءَ فِي الأَثَرِ: ((عَلَيكُمْ بِالتِّجَارَةِ فَإِنَّ فِيها تِسْعَةَ أَعشَارِ الرِّزقِ))، كَمَا أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- حَثَّ أُمَّتَهُ عَلَى العِنَايَةِ بِالأَرضِ وزِرَاعَتِها فِي قَولِهِ: ((التَمِسُوا الرِّزقَ فِي خَبايَا الأَرضِ))، وقَولِهِ -صلى الله عليه وسلم-: ((مَا مِنْ مُسلِمٍ يَغْرِسُ غَرساً أَو يَزْرَعُ زَرْعاً فَيأْكُلُ مِنْهُ إِنْسانٌ أَو طَيْرٌ أَو بَهِيمَةٌ إِلاَّ كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ))، ولَكِنْ قَدْ لاَ يَكُونُ المَرْءُ قَادِراً عَلَى تَوفِيرِ كُلِّ مُتَطَلَّبَاتِ حَياتِهِ بِعَمَلِ يَدِهِ، فَيَنشَأُ تَبادُلُ المَصَالِحِ بَيْنَ العِبادِ، وتُجلَبُ الإِحتِياجَاتُ مِنْ مُختَلَفِ الأَصَقاعِ والبِلاَدِ، وهُنا رُبَّما سُوِّلَ لِضِعَافِ النَّفُوسِ استِغلاَلُ الآخَرِينَ، واغتِنامُ حَاجَاتِ المُستَهلِكِينَ، فَجَاءَتْ تَعالِيمُ الإِسلاَمِ بِمَنْهَجٍ وَاضِحٍ يَقِي المُجتَمَعَ تَصَرُّفاتِ النُّفُوسِ الشَّحِيحَةِ، ويُوَجِّهُ التَّعامُلاَتِ وِجْهَتَها الصَّحِيحَةَ، فَحَرَّمَ ضُروبَ الإِستِغلاَلِ الجَشِعِ، وحَذَّرَ مِنْ خُطُورَةِ الأَنَانِيَّةِ والطَّمَعِ، فَنَهَى عَنِ الاحتِكَارِ، لِلْحَيلُولَةِ دُونَ المُغَالاَةِ فِي الأَسْعارِ، فَعَنْ أَبِي هُريْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: ((مَنْ احتَكَرَ حُكْرةً يُرِيدُ أَنْ يُغلِي بِها عَلَى المُسلِمينَ فَهُوَ خَاطِئٌ))، والحُكْرَةُ حَبْسُ السِّلَعِ عَنِ البَيْعِ، ولَمْ يَقِفِ النَّهْيُ عِنْدَ الاحتِكارِ وَحْدَهُ، بَلْ تَعدَّاهُ إِلى كُلِّ تَصَرُّفٍ أَو احتِيالٍ تَكونُ نَتِيجَتُهُ رَفْعَ الثَّمَنِ دُونَ مُبَرِّرٍ، والمُغالاَةَ فِي الأَسْعارِ والتَّضْييقَ عَلَى النَّاسِ، فَعَنْ مَعقِلِ بنِ يَسارٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: ((مَنْ دَخَلَ فِي شَيءٍ مِنْ أَسْعَارِ المُسلِمينَ لِيُغلِيَهَ عَلَيْهِم كَانَ حَقّاً عَلَى اللهِ أَنْ يُقْعِدَهُ بِعظمٍ مِنَ النَّارِ يَوْمَ القِيامَةِ)) أَي بِمكَانٍ عَظِيمٍ مِنْها.
إِنَّ لِلتِّجَارَةِ فِي الإِسلاَمِ بُعْداً لاَ يَقِفُ عِنْدَ كَونِها مُجَرَّدَ سَعْيٍ لأَربَاحٍ شَخْصِيَّةٍ، بَل هِيَ وَسِيلَةٌ لِتَحقِيقِ الرَّفاهِيَةِ المَعِيشِيَّةِ، وعَامِلٌ مِنْ عَوامِلِ تَرابُطِ العَلاَقاتِ الاجتِماعِيَّةِ، إِنَّها ضَرورَةٌ لاستِمرارِ الحَياةِ الإِنْسَانِيَّةِ، هَذَا هُوَ الفَهْمُ الصَّحِيحُ لِمَعانِي التِّجَارَةِ، كَمَا استَوعَبَهُ سَلَفُ هَذِهِ الأُمَّةِ، فَجَعَلوا مِنْها سَبَباً لِكَشْفِ الغُمَّةِ، وسَنداً لِلضُّعَفاءِ فِي المَواقِفِ المُدلَهِمَّةِ، وهُنا يَسْمُونَ بِنُفُوسِهِم عَنْ حُبِّ الذَّاتِ، إِلَى قَرْعِ أَبْوابِ الجَنَّاتِ، بِما يَجُودُونَ بِهِ عَلَى الضُّعَفاءِ مِنَ المُواسَاةِ والصَّدَقاتِ، فِي مَطْلَبٍ صَادِقٍ لِلْفَلاَحِ، قَالَ تَعالَى: ((وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون))(3)، وتَرْوِي لَنَا كُتُبُ السِّيرَةِ عَنْ مَوقِفٍ مُشْرِقٍ لأَحَدِ تُجَّارِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- يَوْمَ أَصَابَ النَّاسَ شِدَّةٌ، فَقلَّتِ السِّلَعُ وارتَفَعَتِ الأَسْعارُ، إِنَّهُ الصَّحابِيُّ الجَلِيلُ عُثمانُ بنُ عَفَّانَ، فَقَدْ كَانَتْ لَهُ تِجَارَةٌ ضَخْمَةٌ فِيها صُنُوفٌ مِنَ الغِذَاءِ والكِسَاءِ وأَنْواعُ السِّلَعِ، ولَمَّا قَدِمَ مِنَ الشَّامِ واقتَرَبَ مِنَ المَدِينَةِ جَاءَهُ التُّجَارُ يُساوِمُونَهُ ويَرْجُونَهُ حَتَّى دَفَعوا لَهُ رِبْحاً بِالعَشَرَةِ خَمْسَةً، وهُوَ يَقُولُ: جَاءَنِي أَكثَرُ-أَي أَنَّهُ قَدْ جَاءَهُ عَرْضٌ بِسِعْرٍ أَكْبَرَ مِنْ عَرْضِهِم-، فَقَالُوا لَهُ: نَحْنُ تُجَّارُ المَدِينَةِ؛ فَمَنْ دَفَعَ لَكَ أَكْثَرَ؟ فَقَالَ: ((إِنَّ اللهَ وَعَدَ بِالحَسَنَةِ عَشْرَةَ أَمثالِها، وإِنَّي أُشْهِدُكُم أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ التِّجَارَةِ صَدَقَةٌ عَلَى أَهلِ المَدِينَةِ))، ومَا جَاءَ المَساءُ حَتَّى كَانَتْ كُلُّهَا مُوَزَّعَةً عَلَى المُحتَاجِينَ ولَمْ يَبِتْ مِنْها شَيءٌ، هَكَذا كَانَ المُسلِمونَ السَّابِقُونَ يَرْجُونَ أَنْ يَدْخُلُوا تَحْتَ قَولِ الرَّسُولِ -صلى الله عليه وسلم-: ((مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُسلِمٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيا نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ القِيامَةِ، ومَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللهُ عَلَيهِ فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ، ومَنْ سَتَرَ مُسلِماً سَتَرهُ اللهُ فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ، واللهُ فِي عَوْنِ العَبْدِ مَا كَانَ العَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ)).