التوبة والإنابة في شهر الله المحرم .. بقلم فضيلة الشيخ/ عبدالمنعم الطاهر
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا)[الْإِسْرَاءِ: 111]، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ حده لا شريك له، خلق كل شيء فقدره تقديرًا، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، أرسله بالحق بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71].
أيها المؤمنون: إنَّ اللهَ حرَّم الظلمَ على نفسه وجعَلَه بينكم محرَّمًا، وإن من أقبح الظلم أن يظلم المرء نفسه فيُدسِّيها ولا يُزكِّيها، ويكون الظلمُ أعظمَ إذا وقَع في الزمان والمكان المعظَّم، فعظَّم اللهُ -تبارك وتعالى- الأشهرَ الحرمَ فقال: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)[التَّوْبَةِ: 36]، وقال تبارك وتعالى عن البلد الحرام والمسجد الحرام: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)[الْحَجِّ: 25]، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حُرمة المدينة: "مَنْ أحدَث في المدينة أو آوى مُحدِثًا فعليه لعنةُ اللهِ والملائكةِ والناسِ أجمعينَ، لا يَقبَل اللهُ منه يومَ القيامةِ صَرفًا ولا عَدلًا".
وإنَّ ربَّكم قد نسَب شهرَكم هذا إليه على لسان نبيكم -صلى الله عليه وسلم-، حثَّكم فيه على الصيام، وقرَنَه بالقيام له في جوف الليل والسَّحَر، فقال عليه الصلاة والسلام: "أفضلُ الصيامِ بعدَ شهرِ رمضانَ شهرُ اللهِ الذي تَدعُونه المحرمَ، وأفضلُ الصلاةِ بعدَ الفريضةِ قيامُ الليلِ"، وإضافتُه إلى الله -تبارك وتعالى- تدلُّ على شرفه وفضله؛ فإنَّه -تبارك وتعالى- لا يُضيف إليه إلا خواص مخلوقاته؛ ولذلك ناسَب الندبُ فيه إلى العمل الذي نسَبَه إلى نفسه؛ وهو الصوم، فقال -تبارك وتعالى- في الحديث القدسي: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنَّه لي وأنا أجزي به، إنَّه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي"، وأوصى به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا أمامة -رضي الله عنه- فقال: "عليك بالصوم؛ فإنَّه لا عِدلَ له، وهو جُنَّةٌ للعبد من النار كجُنَّة أحدكم من القتال"، فَطُوبَى لمن جوَّع نفسَه وأظمأها وترَك شهوةً حاضرةً لموعد غُيِّبَ لم يَرَهُ، وطوبى لمَنْ ترَك طعامًا يَنفَد في دار تَنفَد لدارٍ أُكُلُها دائمٌ وظِلُّها، والدنيا كلها شهر صيام المتقين، وعيدُ فطرهم يوم لقاء ربهم، ومعظم نهار الصوم قد ذهب، وعيد اللقاء قد اقترب، وما خف بدنٌ من طعام إلا ونَشِطَ إلى القيام، وفضلُ صلاةِ الليلِ على صلاة النهار كفضلِ صدقةِ السرِّ على صدقة العلانية؛ لأنَّها أبلغُ في الإسرار، وأقربُ للإخلاص، ولأنها أشقُّ على النفوس؛ لمجاهَدة مَيلِها إلى النوم والدعة، فأفضل الأعمال ما أُكرهت عليه النفوسُ، والقرآنُ الذي يُتلى في جوف الليل أقربُ للتدبُّر؛ لانقطاع الشواغل وحضور القلب، وتَواطُئِه مع اللسان على الفم؛ قال الله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا* أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا * إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا)[الْمُزَّمِّلِ: 1-8].
وفي الأسحار تنزُّل الجبَّار، ودوي الاستغفار، وفتح أبواب السماء واستجابة الدعاء، واستعراض حوائج السائلين، عند رب العالمين، أخفى أهله فيه أعمالهم، فأخفى الله عنده لهم جزاءهم، قال عز وجل: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[السَّجْدَةِ: 16-17].
وأهل القنوت صدقًا هم أهل العلم حقًّا؛ (أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ)[الزُّمَرِ: 9].
وفي الحديث عنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "عليكم بقيام الليل؛ فإنَّه دأب الصالحين قبلكم، وإن قيامَ الليلِ قُربةٌ إلى الله، وتكفيرٌ للسيئات، ومنهاةٌ عن الإثم، ومطردةٌ للداء عن الجسد"، وأولُ ما سَمِعَ عبدُ الله بن سلام -رضي الله عنه- من النبي -صلى الله عليه وسلم- عند قدومه المدينة قوله -عليه الصلاة والسلام-: "يا أيها الناسُ، أطعمِوا الطعامَ، وأفشُوا السلامَ، وصِلُوا الأرحامَ، وصلُّوا بالليل والناسُ نيامٌ، تَدخُلوا الجنةَ بسلام".
أيها المؤمنون: يوم العاشر من المحرم، يوم عاشوراء له فضيلة عظيمة، وحرمة قديمة، وصومُه لفضله كان معروفًا بين الأنبياء، وما رُئي رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم يومًا يتحرَّى فضلَه على الأيام مثل يوم عاشوراء، ودخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة ويهود تصومه؛ لصيام موسى -عليه السلام- فيه شكرًا لله على نجاته وقومه، وهلاك فرعون وقومه في ذلك اليوم، فقال صلى الله عليه وسلم: "فنحن أحقُّ وأَوْلَى بموسى منكم"، فصامَه وأمَر بصيامه، وسألَه رجلٌ عن صيامه فقال صلى الله عليه وسلم: "أحتسبُ على الله أن يُكفِّر السَّنةَ التي قَبلَه"، وقال عليه الصلاة والسلام: "لئن بقيتُ إلى قابلٍ لَأَصُومَنَّ التاسعَ"؛ أي: مع العاشر؛ مخالفةً لليهود، ومَنْ صام يومًا قبلَه أو يومًا بعدَه أو صام الثلاثةَ، أو ضَعُفَ عن ذلك فصامَه وحدَه فكلُّ ذلك واسعٌ وحسنٌ، ونصَّ الإمامُ أحمدُ -رحمه الله- على صومه في السفر؛ لأنَّه يفوت، ولا عدة له من أيام أخر.
أيها المؤمنون: كتَب عمرُ بنُ عبد العزيز -رحمه الله- إلى الأمصار كتابًا وقال فيه: "قولوا كما قال أبوكم آدم -عليه السلام-: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23]، وقولوا كما قال نوح -عليه السلام-: (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[هُودٍ: 47]، وقولوا كما قال موسى -عليه السلام-: (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي)[الْقَصَصِ: 16]، وقولوا كما قال ذو النون -عليه السلام-: (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)[الْأَنْبِيَاءِ: 87]"، فاعترافُ المذنبِ مع الندم عليه توبةٌ مقبولةٌ، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب، تاب الله عليه". وإنَّا كُنَّا نسلًا من خلق السماء خُلِقْنا كخلقهم، وغُذِينا بغذائهم فسَبَانا عدوُّنا إبليسُ فليس لنا فرحٌ ولا راحةٌ إلا الهمُّ والعناءُ، حتى نُرَدّ إلى الدار التي أُخرِجْنا منها، وإنَّما هلَك إبليسُ بالعُجب بنفسه فقال: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ)[ص: 76]، وإنَّما كَمُلَتْ فضائلُ آدمَ -عليه السلام- باعترافه على نفسه فقال: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا)[الْأَعْرَافِ: 23]، وكان إبليسُ كلما أوقَد نارَ الحسد لآدم فاح بها ريحُ طِيب آدمَ واحترَق إبليسُ، فاحذروا هذا العدوَّ الذي أخرَج أباكم من الجنة، فإنَّه ساعٍ في منعكم من العَوْد إليها بكل سبيل.