الأبعاد الإيمانية في المدرسة العلمية الزينبية بقلم - كريم إبراهيم أحمد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فإن التعلم والتعليم في الإسلام ليس خاليًا ولا بعيدًا عن نور الإيمان وحلاوته، ولا نائيًا عن مراقبة الله واستحضار عظمته؛ فلابد أن يكون هكذا في معاقل العلم ومدارسه وكلياته وجامعاته، وفي كلِّ وعاءٍ من أوعيته، وإلَّا فَقَدَ أَجْمَلَ ما فيه وهو ثمرتُه، إننا نزرع ونغرس راجين الثمرةَ، وثمرة العلم العظمى ونتيجته الكبرى هي زيادة الإيمان بالله والوصول إلى الله جل جلاله والتعلُّق به والخشية منه قال تعالى: {إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ}.
وعليه فلا يتصوَّر -شرعًا وحقيقةً وقبولًا- عالمٌ بلا عمل متقن مجود، أمَّا مِن حيث وجود عالم غير عامل بعلمه فنعم يوجد ولكن لست عنه أتكلم ولا إياه أعني، إنما أريد عالما عاملا بعلمه تفيض عيناه مما يعرف من الحق ومما يسمع من كلام الهدى ودين الحق.
وهذا في السلف كثيرٌ جدًّا، بل هو الأصل، لكن في عصرنا وواقعنا -وفيه خيرٌ دون شكٍّ- غلبت الماديةُ الروحيةَ وطغى العلمُ النظريُّ الخلو من البعد الإيماني على العلم ذي الإيمان والإتقان.
وحينَ نجد نماذجَ لهذا النوع الرائع الذي يحبه الله ورسوله والمؤمنون فإننا نفرح به ونسعد ونُسَرُّ ونغتبط، وأستاذتنا أستاذةُ الجيل الشيخة الكريمة أ. د. زينب عبد السلام أبو الفضل -بإنصافٍ وإحقاقٍ للحقِّ- أنموذج عالٍ وطرازٌ نفيس في المعنى الرائق الذي أسلفت بيانَه، ولما كانت الأدلةُ والبيناتُ هي المخرج الوحيد من وسْمنا في دعوانا بالأدعياءِ لزمني لزومًا أن أسوق ما تيسر من بيناتٍ من أقوالها ومواقفها وتوضيحاتها وتدقيقاتها:
-"سنفنى ويبقى العملُ شاهدًا لنا أو علينا": كلمة تشبه كلمات السلف في وجازتها وجلالتها. وقصدُها أن نتقن أعمالنا كلها ونحسنها ونجودها تجويدًا. قال تعالى: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا}، و"إن الله عز وجل يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه".
-"ملتفت لا يَصِلْ": امضِ قدما ولا تنشغل بمدح الخلق ولا بذمهم فالذي مدحُه زيْن وذمُّه شين هو الواحد الأحد الفرد الصمد. قال الإمام الشافعي: سرت مع الصوفية فاستفدت منهم أن الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك.
-"خلِّ نفسك وتعالَ": قال أبو يزيدٍ - رحمه الله -: رأيت ربَّ العزَّة في المنام فقلت: يا ربِّ، كيف الطريق إليك؟ فقال: خلِّ نفسك وتعالَ. فلا تنشغل بالدفاع عن نفسك واترك الأمر لله وصَدَقَ الله وعزَّ من قائلٍ سبحانه: {إن الله يدافع عن الذين آمنوا}؛ وتعلِّلُ أستاذتنا -وفقها الله- قائلة: إنك مهما دافعت عن نفسك مبرئا ساحتك فإنَّ للناس عقولا متفاوتة وقناعات شتى فدع الأمر لله يظهره على ما تستحق ويبرزه على النحو اللائق. ولفتت -سددها الله- إلى الكلمة الذائعة لمجاهدٍ رحمه الله: يضيع العلم بين مستحي ومستكبر، ومن تأمَّل هذه الكلمة، مع استحضار خلِّ نفسك وتعالَ، ومع ضرورة ترْك الدفاع عن النفس وتبرير الأفعال وتسويغِ ما يصدر منك منشغلًا بهذا عن الهدف الأسمى والمقصد الأعلى وهو التعلُّق بالله والرِّضا به ربًّا وحكمًا عدلًا = وَجَدَ لهذه الكلمة حلاوةً يَفرح بها المؤمنون. ومن ذاق عرف ومن عرف اغترف.
- الدعوة الدائمة -ولا سيما بالأفعال والمواقف- إلى السلام الداخلي وكمال سلامة الصدر من الغل والحقد والحسد والبغضاء الذي يثمر سلامًا وأمنًا خارجيًّا. والحديث عن سلامة الصدر يطول جدًّا. وإنما تظهر سلامةُ الصدر بالمعاملة.
- الحث على التعاون بين طلاب العلم وباحثي الدرجات العلمية، والتحذير البالغ من كتمان العلم، والاستئثار بالمعلومة والفائدة دون الآخرين والزملاء، وحثّ النابهين من الطلاب على النهوض بزملائهم ممن قلَّ حظه من قوة العلم والتفوق في البحث والدرس، بل لَوْم كلِّ مقصِّرٍ عن القيام بحقِّ إنعام الله عليه، وامتنان الكريم المنان إليه.
- الحرص على تقديم الشكر لمستحقه كلما أمكن وسنحت الفرصةُ، والعناية بالدعاء ولا سيما لمن قضوا نحبهم وماتوا من طالب أو باحث أو عالم أو زميل، وإنما يعرف الفضلَ لأهله أهلُ الفضل.
- الفهم الدقيق لما تفعله وتقوم به وتقوله وتنقده على الباحثين وتناقشهم فيه، ومن الدليل على ذلك: مسألة: تقديم القياس على النص، قد يبدو هذا القول لبعضهم طاغوتًا! لكنهم حين يسمعون تعليل أستاذتنا سرعان ما يعرفون أنها أكثر توقيرًا للنصِّ من فهمهم القاصر: فالقياس المراد هنا قاعدة مستمدة من جملة نصوص لا من نصٍّ واحدٍ! فلا إله إلا الله والله أكبر وسبحان ربي!
- الاتزان والاعتدال ومعرفة القيود والإطلاقات ولا غَرْوَ فهي الأصوليةُ الألمعيةُ نظريةً وتطبيقًا وتعلمًا وتعليمًا، ويظهرُ هذا جليًّا حين تناقشُ قضيةً متداخلةً متشابكةً تتعلَّق بالحلالِ والحرامِ وتمييزِ ما يجوز وما لا يجوز.
- الاهتمام البالغ بتحرير المكتوب وإخراج البحث في أبهى صورة من حيثُ الشكل والتنسيق وعلامات الترقيم والضبط والتشكيل للمشكِل مؤكِّدة أن ذلك يدل على أدب الباحث في نفسه واحترامه لمعلمه ومشرفه وهذا لا مرية فيه وواجب لابد منه.
- في حين نجد شططا من بعض المشرفين في مسألة تحدُّث الباحث عن نفسه: قالت الدراسة، قام الباحث. نجد أستاذتنا تقول: تحدَّثْ عن نفسك كما جاء به لسان العرب وكلامهم: قلت، بحثت، حاولت، حرصت، لكنها في الوقت نفسه تأبى: قلنا، وبحثنا، ووجدنا، ورجحنا، ورأينا. فلا إفراط ولا تفريط ولا عدوان ولا تقصير.
- إعطاء الدرجة العلمية لمن يستحقها دون مجاملةٍ ولا غشٍّ، ويسبق ذلك كفاحٌ عريض، وطريق طويل، وبحث وتنقيب، واختيارٌ وانتقاءٌ للباحث انتقاءً محكم المباني رصين المعاني، وقبل المناقشة وخلال سِنِي الإشراف مراجعاتٌ دائبة ونظرات فاحصة في اجتماعات دورية رائقة، وقبل المنْح تكون مناقشةٌ تدل على خوفٍ من الله وورعٍ وتقوى؛ فالمشرفة لا تحابي والمناقشون لا يجاملون بل يقوِّمون ويصوبون وحرفا حرفا يقرؤون. نحسبهم والله حسيبهم ولا نزكي على الله تعالى أحدًا.
وفي تصوُّري أنَّ هذا العنوان: "الأبعاد الإيمانية..." جدير بتحرير يطولْ فلعل الله أن يجعله يكونْ. وحسبنا من القلادة ما أحاط بالعنق.
وجزى الله الأستاذة الدكتورة العالمة خيرًا ورحم الله من ربَّى وعلَّم وتابَع وهذَّب.