أنباء اليوم
الإثنين 25 نوفمبر 2024 06:01 صـ 24 جمادى أول 1446 هـ
 أنباء اليوم المصرية
رئيس التحريرعلى الحوفي

الغسق (الجزء السادس والأخير)

بقلم محمد عبد الفتاح
صرخت باستماتة غير مصدقة ما حدث، كيف،ولماذا،ولم ؟!
و ناء المكان الكبير، والعظيم بصوت عالي جدا يحدث الصمم في الآذان ، كأنه وحش يلفظ الأنفاس الأخيرة في الحياة . أما هو فظل واقفا يجتاحه ألم جم ، ينازع سكرات الموت ، بينما ملك الموت علي أهبة الاستعداد لقبض روحه .
ظل الوضع علي ما هو عليه لعدة ثواني طويلة جدا ، مرت كأنها دهر من الزمن . أما هي فدفنت رأسها بين كفيها في صراخ و نواح هستيري غير قادرة أو مصدقة ما حدث للتو أمام عينيها . ظل الحال علي نفس الوضع لعدة ثواني أخري طويلة ، حتي سمعت من خلال الظلام الذي كان يغلفها و الذي يحتوي كل ذرة من قلبها المحترق، همس اسمها .
ظنت في بادئ الأمر أنه ينادي باسمها خلال سكرات الموت ، فلم ترد عليه، ليس لأنها لم تكن تريد أن ترد في الحقيقة، و لكن لأنها كانت ترتجف فزعا،وهلعا لما رأته للتو أمام عينيها . ناداها مرة أخري ، لكنها كانت مازالت غير قادرة علي أن تفتح عيونها،و تواجه هذا المشهد العصيب ، و لكن عندما همس باسمها للمرة الثالثة علي التوالي ، فتحت عيناها،وحركت رأسها بصعوبة بالغة ، لتجده واقفا أمامها علي وجهه ابتسامة فاغرة، وفي أتم صحة و أحسن حال .
ظل يضحك بهيستريا كالمجنون؛أما هي فلم تملك سوي أن تشاركه الضحك بصوت خافت من بين الدموع، عساها تستفهم ما جري .
وكانت تلك هي أول ضحكة تطلقها منذ أن وصل . هل كانت تلك مزحة؟!
لكن لم ،ولماذا ؟وكيف.....؟!
هل كانت السكين غير حقيقية؟ ....يا للرجل المجنون ! لماذا فعل هذا؟!
يا للرجل التعيس المجنون .
جري بسرعة يرتمي بين أحضانها . لقد كسب التحدي أخيرا،و ها هي أطلقت ضحكة جميلة كان علي استعداد أن يدفع عمره بأكمله حتي يراها .
نظر إلي عيناها الفيروزية الجميلة فإذا بها بدر تحت ضي القمر . كانت جميلة،فاتنة في الحقيقة . و كان دوما ما يتوه في رحاب تلك العيون الواسعة الجميلة . أمسك كفيها ثم أخذ يقبلهما بحنان جم، كأب يقبل كفي ابنته . يا لجمالها !يا لفتنتها البالغة!
لكنه... لكنه كان يعلم الحقيقة . تلك الحقيقة التي طالما حاول الهروب منها مرارا و تكرارا ، فمكوثه معها يعني الموت، بل هو أشد وطأة من الموت . و هكذا و في أقل من لحظة،ودون أن يدري، كانت الذكريات قد اجتاحته من جديد . تذكر كيف كانت تعامله، تذكر كيف كانت تبصق في وجهه الأذي . تذكر كيف استباحت في تعذيبه أشياء لا تخطر علي قلب بشر . لذلك فقد ظل يتفكر لأكثر من عشر دقائق كاملة، ماذا سيكون أهم قرار في حياته اتخذه حتي تلك اللحظة ؟!
و هكذا ، و ليس لدواعي العقل فقط، بل لدواعي التجربة قبل أي شئ آخر ، و بصعوبة بالغة من قلبه الذي مازال يهمس باسمها ، سلت كفيه من بين يديها بصعوبة بالغة،و أعطاها ظهره استعدادا للرحيل . صرخت و بكت بهيستريا أن لا ...لا تتركني....لا تتركني لظلمة هذا المكان المخيف ، لكنه كان قد عزم .
نظر نظرة أخيرة، و طويلة إلي وجهها ، بيد أنه يريد أن يبقي بجانبها فعلا لكنه حقيقة لا يستطيع .
أعطاها ظهره استعدادا للرحيل، غير أنها كانت مازلت متشبثة به حتي آخر نفس . و وجد صعوبة بالغة في تحرير إصبع السبابة الصغير من بين أيديها .
لم يكد يمض بضع دقائق لم يتح خلالها له أن يفهم حقيقة ما جري، غير أن جسده طارح الأرض بقوة صارخة، لقد كسب التحدي بحق، لكنه خسر قدمه، مغامرا ضد طبيعتها غير المتزنة  ،وغير المستقرة . و كان كثيرا ما يتساءل كيف يهب الله شخصا كل هذا الجمال، لكن يحرمه نعمة العقل ؟!
سبحان الله.. لقد خسر قدمه ، قدمه اليمني خسرها في أقل من لحظة ، حتي أنه لم يتح له الوقت ليفهم حقيقة ما جري، أو حتي يأخذ حذره من تلك الحركة المباغتة . خسر قدمه لها مستعملة فاس كبير كانت تحتفظ به تحت مقعدها. تلك القدم التي كان يستعملها بشكل أساسي للرقص أمامها.
وقع علي الأرض مغشيا عليه في الحال، و الدماء تلطخ كل شبر من أشبار المكان، غير أنها بقت علي كرسيها المتحرك تتطلع في وجهه لبعض الوقت دون أن تفعل أي شئ علي الإطلاق .
رفعت جسمها إلي الأعلى مستعملة مسندي الكرسي المتحرك باستخدام ذراعيها القويتين ، ثم رمت نفسها إلي جانبه كعنكبوت ينقض علي فريسته؛ ثم دثرت النزيف غير المتوقف ببطانية صغيرة كانت تحتفظ بها علي الكرسي المتحرك تحت مقعدتها ، لينام هو؛و تنام هي في أحضانه للأبد . تمت ..