” الدين فن صناعة الحياة لا صناعة الموت ” بقلم / د محمد مختار جمعة
إن الدين ليس بمعزل عن حركة الكون وعمارته، فالدين فن صناعة الحياة لا صناعة الموت ، فلن يحترم الناس ديننا ما لم نتفوق في أمور دنيانا ، فإن تفوقنا في أمور دنيانا احترم الناس ديننا ودنيانا.
وإن صحيح العقل لا يمكن أن يصادم صحيح النقل، فمن أنزل صحيح النقل هو سبحانه من زين الإنسان بالعقل، ومنحه القدرة على التأمل والتفكير والفهم ، والأديان إنما جاءت لتحقيق مصالح البلاد والعباد ، فحيث تكون المصلحة المعتبرة فثمة شرع الله الحنيف ، وهو ما تسعى إلى تحقيقه العقول الرشيدة والقيادات الحكيمة .
الدين والدنيا يتكاملان ولا يتصادمان ، فكل ما يؤدي إلى سعادة الناس في حياتهم هو من صميم معاني الأديان ومقاصدها العليا ، وكل ما يؤدي إلى الضعف واضطراب الحياة وانتهاج سبل الغي والضلال يتناقض مع الدين والخلق والفطرة الإنسانية السوية.
الدين والحياة لا يتناقضان ، إنما يرسخان معًا أسس المواطنة المتكافئة ، والتكافل المجتمعي ، وأن لا يكون بيننا جائع ولا محروم ولا عارٍ ولا مشرد ولا محتاج ، الأديان رحمة كلها ، سماحة كلها ، عدل كلها ، يسر كلها ، وهو ما عليه الإنسانية السوية .
الدين والحياة يدفعان إلى العمل والإنتاج ، والتميز والإتقان ، ويطاردان البطالة والكسل ، والإرهاب والإهمال ، والفساد والإفساد ، والتدمير والتخريب .
فلا مجال فيهما للتواكل وعدم الأخذ بالأسباب أو التزهد الشكلي، فقد قالوا ليس الزاهد من لا مال عنده إنما الزاهد من لم تشغل الدنيا قلبه ولو ملك مثل ملك قارون ، وإلا فما أجمل الدين والدنيا إذا اجتمعا ، ونعم المال الصالح للعبد الصالح ، يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : " إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لاَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَلاَ يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلاَ يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ، وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالاً وَلاَ عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ "(سنن الترمذي)، وأهل العلم على أن الغني الشاكر خير من الفقير الصابر ، تشجيعًا للعمل وحثًا عليه ، وخير الناس من يأكل من عمل يده ، يقول (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): "مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ، خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ"(صحيح البخاري)، ويقول (صلى الله عليه وسلم): "مَنْ باتَ كالاًّ مِنْ عملِ يدهِ باتَ مغْفوراً لَهُ"(تاريخ ابن عساكر)، فاليد العاملة يد يحبها الله ورسوله .
ومن هنا كان التكامل والتوازن بين أمري الدنيا والآخرة حيث يقول الحق سبحانه" وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ " [القصص: 77] ، ويقول سبحانه : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ " [الجمعة: 9،10].