”وصايا للفوز بصلاح الدنيا وسعادة الآخرة” بقلم فضيلة الشيخ/ عبدالمنعم الطاهر
وصايا للفوز بصلاح الدنيا وسعادة الآخرة
بقلم فضيلة الشيخ / عبدالمنعم الطاهر احمد سليمان
من علماء الأزهر الشريف
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيِّئات أعمالنا، مَنْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومَنْ يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ: فاتقوا الله -عباد الله- حق التقوى، ورَاقِبُوه في السِّرِّ والنَّجْوَى.
أيها المسلمون: جعَل اللهُ الحياةَ الدنيا دارًا لابتلاء العباد واختبارهم، يقطعون مراحلها سائرين إلى دار البقاء، فهي مزرعة العاملين وسُوق العابدين؛ (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)[الْمُلْكِ: 2]، فمَن أحسَن العملَ فاز واستحق الثواب، ومن أساء خسر واستحق العقاب، والحكمة مِنْ خلق الجن والإنس أن يعبدوه وحدَه دون سواه، وقد أعانهم على هذه الغاية بما نصَب لهم من الشواهد في أنفسهم وفيما حولَهم، وبما أرسَل إليهم من الرسل وأنزَل عليهم من الكتب، فقامت عليهم الحجةُ واستبانت لهم المحجَّةُ، وضرَب لكل عبد أجلًا وكتب له في علمه عمرًا، وعُمرُ العبدِ في الدنيا هو زمن عمله وكدحه إلى ربه قبل أن يلاقيه، قال جل شأنه: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ)[الِانْشِقَاقِ: 6].
والدنيا كلها من أولها إلى آخرها قصيرة بالنسبة إلى الآخرة، ومهما عمر فيها العبد فله أجل لا بدَّ أن يبلغه، وكل نفَس يتردد في صدره هو مرحلة من مراحل حياته إذا انقضت لن ترجع، والزيادة في العمر حقيقتها نقص منه وقرب من الأجل، وأكثر الخلق في غفلة عن الحكمة التي لها خُلِقُوا، فتأخذهم الدنيا بزينتها وفتنتها، قال عز وجل: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ)[التَّكَاثُرِ: 1-2]، وقد أقسَم اللهُ في كتابه بالزمان وأجزائه ومراحله؛ تذكرةً للعباد بكثرة تقلُّب الحياة وسرعة زوالها، فأقسَم بالليل والنهار والشمس والقمر والضحى والفجر والعصر، وندب إلى الاعتبار بما في حركة الشمس والقمر من انقضاء الأوقات والأعمار، قال سبحانه: (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)[يس: 39-40]، وأخبر -سبحانه- بأنَّه لا يعتبر بتقلب الدهر إلا أولو الأبصار، قال -جل شأنه-: (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ)[النُّورِ: 44].
وكل عام ينقضي من عمر العبد، بل كل يوم من أيامه فيه تذكرة بأن لكل بداية نهاية، وفي طلوع فجر العام الجديد ما يُذكِّر النفسَ بأن الفرصة لا تزال قائمة، والعاقل مَنْ يُحصي على نفسه نتيجةَ عمله وثمرةَ عمره، كما يحصي أرباح تجارته وخسارته؛ فالعمر رأس مال كل مخلوق، وعدته الصحة وسلامة القوى، وأكثر الناس مغبون فيهما، قال عليه الصلاة والسلام: "نعمتان مغبون فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ"(رواه البخاري)، والربح في الدنيا بحسن العمل ودوام الاستعداد لانقضاء الأجل، وابن آدم يؤمل البقاء، ويزيد حرصه على الدنيا وما فيها من الأموال والمتاع، ويشغله ما هو فيه من النعم عن تذكُّر قربِ العاقبة ودنو النهاية، قال عليه الصلاة والسلام: "يَهرَم ابنُ آدمَ وتشبُّ منه اثنتان: الحرص على المال، والحرص على العمر"(مُتَّفَق عليه).
وحريٌّ بمن عرف حقيقة الدنيا وسرعة انقضائها أن يتخير الأنفع له في كل أمر، والأكمل من كل شأن، فلا يبذل وقته إلا فيما هو أكمل فائدةً، فيتخير من الفضائل أعلاها، ومن الصالحات أسناها، ومن القُرُبات أجلَّها، ومن لم يكن ملازِمًا للطاعات فليكن مفارقًا للسيئات، على أن مَنْ لم يزدد بالإحسان فحاله إلى نقصان، ومن لم يتقدم بالخيرات تأخَّر بالسيئات، قال سبحانه: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ)[الْمُدَّثِّرِ: 37].
والضَّعْف بعد القوة في الحياة سُنَّة لازمة، والهَرَم بعد الفتوة أمر لا يتخلَّف، والمرض بَعْد الصحة جادَّة لا مَحِيد عن سلوكها، قال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً)[الرُّومِ: 54].
ومثل الدنيا من أولها إلى آخرها كمثل زرع نبت بعد غيث مدرار، فأعجب أهله ما فيه من الخضرة والجمال، ثم لا يلبث أن يكون حطاما، قال سبحانه: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا)[الْحَدِيدِ: 20].
ومن طال به العمر حتى لاح عليه الشيب فقد جاءه النذير بقرب الأجل، قال تعالى: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ)[فَاطِرٍ: 37]، قال البخاري -رحمه الله-: "النذير الشيب".
وأعمار هذه الأمة ما بين الستين والسبعين، ومن بلغ الستين فلا عذر له لطول المهلة، قال عليه الصلاة والسلام: "أعذَر اللهُ إلى امرئٍ أخَّر أجلَه حتى بلَّغَه ستينَ سنةً"(رواه البخاري)، ولهذا أرشَد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى اغتنام الحياة وما فيها من الشباب والقوة قبل فقدهما، والعمل في حال الفراغ والغنى قبل نزول أضدادهما، قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو يعظه: "اغتنِمْ خمسًا قبل خمس: شبابَكَ قبل هرمك، وصحتَكَ قبل سقَمِكَ، وغناكَ قبلَ فقرِكَ، وفراغَكَ قبل شُغلِكَ، وحياتَكَ قبلَ موتِكَ"(رواه النسائي)، واغتنامها بكثرة العمل الصالح والحرص على الوقت؛ فلا يكون يوم العبد إلى خيرًا من أمسه، ولا غده إلا خيرًا من يومه، ومن استوى يوماه فهو مغبون، ومن نكص على عقبيه بعد الاستقامة فهو خاسر.
ومن أعظم ما تذهب أيام العام سدى إضاعة الأوقات من غير عمارة الآخرة، ومن لم يحفظ وقته فاته الانتفاع به، وخير ما تعمر به الأوقات الازدياد من العلم النافع وكثرة العبادة وقراءة القرآن، والكسب الحلال والإحسان إلى الخلق.
ودوام الحال في الدنيا من المحال، والأيامُ دُوَلٌ، ولا بد أن يتقلَّب العبدُ فيها بين السراء والضراء والفقر والغنى والأمن والخوف، قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ)[الْبَقَرَةِ: 155].
ومن حكمة الله في التقلب أن يستخرج مِنَ العبدِ في كل حال ما يناسبه من أنواع العبودية، فلا يَكمُل الصبر إلَّا بالشكر، ولا يُقدِّر النعمةَ قدرَها إلى مَنْ ذاقَ ألمَ فَقدِها، ولا يخاف اللهَ حقَّ الخوف إلا مَنْ كَمُلَ رجاؤه فيه، ومن لم يُقاسِ المنعَ لم يعرف لذة العطاء، فمن عرف هذا استقام نظره إلى أقدار الله وأفعاله في خلقه، فما من رفع ولا خفض ولا قبض ولا بسط ولا خير ولا شر إلا ولله فيه حكمة بالغة، وله على العباد فيه عبودية لابدَّ منها، وإنَّما يدفع قدر الله بقدره، ويستنزل الخير منه بدوام شكره، والتسليم للقدر لا يعارض العمل بالشرع.
والعبد في الحياة مبتلًى بشيطان يوسوس له، ونفس تأمره بالسوء، وشهوات تقطع الطريقَ عليه، فلا غِنًى له عن مُلازَمة التوبة في كل حين، قال عز وجل: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[النُّورِ: 31]، وهي عبادة جليلة يُحِبُّها اللهُ مِنْ عباده؛ (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ)[الْبَقَرَةِ: 222].
والعبد قريب من المعصية والغفلة، والخطأ من لوازم البشر، والنقص الذي يوجب اللوم هو ترك التوبة والإصرار على الذنوب، ومَنْ واقَع السيئةَ فَلْيَمْحُهَا بكثرة الاستغفار والازدياد من الحسنات، قال تعالى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)[هُودٍ: 114]، وختام العمر بالتوبة الصادقة توفيق ونجاة، ومَنْ تاب اللهُ عليه لم يؤاخذه بما أسلَف من الأوزار، ومَنْ لازَم التوبةَ بعد الذنوب وُفِّقَ لها عند دنو الأجل، ومَنْ سوَّف يُوشِك أن يَبغَتَه الموتُ قبل أن يتوب، قال سبحانه: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ)[النِّسَاءِ: 17]، أي: قبل نزول الموت: (فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)[النِّسَاءِ: 17].
وأعظمُ وازعٍ يدفَع إلى الاعتبار تذكُّرُ الموت والاتعاظ بكثرته في الأقربين والأبعدين، لاسيما في هذا الزمن الذي ظهرت فيه الأدواءُ، وأخافَ الناسَ فشوُّ وباءٍ بعدَ وباءٍ، وكَثُرَ فيهم مَنْ يموت فجأةً.
وبعدُ أيها المسلمون: فالدنيا خطوتان؛ خطوة انقضت بخروجك إلى الدنيا، وبقيت الخطوة التي أنت فيها الآن، ونهايتها إذا طلعت الشمس فقد لا تغيب وأنتَ من الأحياء، وإذا غربَتْ وأنتَ من الأحياء فقد لا تَطلُع إلا وأنتَ من الموتى، قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أخَذ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بمنكبي فقال: كُنْ في الدنيا كأنكَ غريبٌ أو عابرُ سبيلٍ"، وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يقول: "إذا أمسيتَ فلا تنتظِرِ الصباحَ، وإذا أصبحتَ فلا تنتظِرِ المساءَ"(رواه البخاري)، وَاجمَعْ ما شئتَ فسترحل كما جئتَ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا)[النِّسَاءِ: 77].
أيها المسلمون: لقد أظلَّكم شهرُ الله المحرَّم، أضافه الله إلى نفسه؛ لأن تحريمه من الله لا من غيره، ونهى عن ظلم الأنفس فيها بالمعاصي والذنوب، قال -جل شأنه-: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)[التَّوْبَةِ: 36]، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "الذنب فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم"، وكثرة التطوع بالصيام في هذا الشهر فعل مسنون، قال عليه الصلاة والسلام: "أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم"(رواه مسلم)، وأفضل ما يتحرى من أيامه بالصيام يوم عاشوراء؛ فقد صامَه النبيُّ -عليه الصلاة والسلام- وأمَر بصيامه، فهو يوم أنجى الله فيه موسى وقومَه، وأغرَق فرعونَ وقومَه، فصامَه موسى شكرًا لربه. (مُتَّفَق عليه)، والأكمل أن يصوم معه اليوم الذي قبله، فيصوم التاسع والعاشر، قال عليه الصلاة والسلام: "لئن بقيتُ إلى قابل لأصومنَّ التاسعَ"(رواه مسلم).
وليس لفاتحة العام مزيةٌ في الشرع، ولم يَرِدْ فيه فضلٌ ولا خصيصةٌ، وتخصيصُه بعبادة بدنيَّة أو ماليَّة أو غيرها إحداث في الدين، وتقدُّم بين يَدَيِ الشرعِ العظيمِ.
ثم اعلموا أنَّ اللهَ أمرَكم بالصلاة والسلام على نبيِّه، فقال في محكم التنزيل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِكْ على نبينا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، ، وأَذِلَّ الشركَ والمشركينَ، ودَمِّر أعداءَ الدِّينِ، واجعل اللهم هذا البلد آمِنًا مطمئنًا رخاء وسائرَ بلاد المسلمين، اللهم وفق إمامنا وولي عهده لما تحب وترضى، وخذ بناصيتهما للبر والتقوى، وانفع بهما الإسلام والمسلمين يا ربَّ العالمينَ، ووفق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وتحكيم شرعك يا ربَّ العالمينَ.