فضيلة الشيخ/ عبدالمنعم الطاهر يرد على شبهات المنكرين لأمية النبي ﷺ
أمية النبي صلى الله عليه وسلم
من أكبر الأدلة على صدقه في دعوته
مع رد شبهات المنكرين لها
بقلم فضيلة الشيخ / عبد المنعم الطاهر احمد سليمان
من علماء الازهر الشريف
من أكبر الأدلة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته هي أُميَّته؛ حيث جاء وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب بهذا الكتاب المعجز القرآن الكريم، هذا الكتاب الذي أعجز البلغاء بفصاحته، وأعيا الفصحاء ببلاغته، كما حوى هذا الكتاب كل ما يحتاجه الإنسان لدينه ودنياه، ففيه العقائد والعبادات، وفيه الأحكام والتشريعات، وفيه الأدب والأخلاق، وفيه المواعظ والقصص، وفيه الجدل والحجاج، إلى غير ذلك مما لا يتناهى منه العجب، ولا ينقطع منه الدهش، كل ذلك أتى على يد نبي أمي لم يقرأ يومًا حرفًا، ولم يخط بيمينه يومًا كلمة، لذلك كانت أميته صلى الله عليه وسلم هي موضع عظمته، ودليل صدقه، وآية من الآيات الدالة على نبوته.
لذلك كان من أكبر ما وجَّه المشككون إليه سهامهم، وسدد إليه الملحدون رميهم هي أميته، فحاولوا إنكارها بشتى السبل، وراموا نفيها بكل الحيل، حتى يصح لهم زعمهم بأنه نقل هذا القرآن من الكتب السابقة، وأنه كان على علم بما فيها، فقد كان يقرأها بلسانه، وينسخها بيده، لذلك أخذوا يتأوَّلون الآيات الصريحة التي تدل على أميته، وينكرون السنة الصحيحة التي تثبت هذه الأمية بما لا يدع مجالا للشك، وكل همهم من وراء ذلك هو هدم أكبر دليل على صدقه صلى الله عليه وسلم.
وقد تبعهم في ذلك عن حسن قصد بعض الباحثين المسلمين الذين أنكروا أمية النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث يظنون أنها لا تليق بمقامه الشريف، وأن أميته تعد صفة نقص لا كمال، فحاولوا بحسن نية تنزيه مقامه الشريف عن هذه الصفة، لكن في الحقيقة والواقع قد تعد الأمية صفة نقص في حق إنسان عادي وسط مجتمع متعلم يجيد معظم أفراده القراءة والكتابة، لكن في حق النبي صلى الله عليه وسلم لا تعد مطلقًا صفة نقص، وإنما هي صفة كمال وإعجاز، صفة يتحقق عن طريقها صدقه في دعوته، وأمانته في تبليغ رسالته، فصفة الأمية أصبحت في حقه صفة كمال؛ لأنها دلَّت على أنه نبي، وهو أعلى مقام يمكن أن يصل إليه بشر، لذلك لا يصح أن نقيس حال البشر العاديين على حال الأنبياء، حتى نقول: إن صفة الأمية عند البشر صفة نقص، فكذلك عند الأنبياء، فهذا قياس مع الفارق.
لذلك سوف نبيِّن في هذا المقال بالأدلة الواضحة، والحجج القاطعة - أنه كان أميًّا، وهذا شرف له ما بعده شرف، ومزية ما بعدها مزية؛ لأن الله عز وجل هو الذي اختار له هذا، وأجرى به القدر حتى تظل علامة صدقٍ وبرهان حق على مر الأيام وتوالى الأعوام.
وأول هذه الأدلة:
1- قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ﴾ [الأعراف: 157].
فالآية واضحة تمام الوضوح، ظاهرة كمال الظهور أنه كان نبيًّا أميًّا، وتكاد تطبق مجامع اللغة وعلماء اللغة على أن (الأمي) هو الذي لا يقرأ ولا يكتب.
فابن قتيبة قد نسَب كلمة أمي إلى أمة العرب التي لم تكن تقرأ أو تكتب، فقال: (قيل لمن لا يكتب أمي؛ لأنه نسب إلى أمة العرب؛ أي جماعتها، ولم يكن من يكتب من العرب أي جماعتها، ولم يكن من يكتب من العرب إلا قليل ...) [1].
ويقول ابن منظور: "والأُمِّيّ: الَّذِي لَا يَكْتُبُ، قَالَ الزَّجَّاجُ: الأُمِّيُّ الَّذِي عَلَى خِلْقَة الأُمَّةِ لَمْ يَتَعَلَّم الكِتاب فَهُوَ عَلَى جِبِلَّتِه، وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ؛ قَالَ أَبو إِسْحَاقَ: مَعْنَى الأُمِّيّ المَنْسُوب إِلَى مَا عَلَيْهِ جَبَلَتْه أُمُّه أَيْ لَا يَكتُبُ، فَهُوَ فِي أَنه لَا يَكتُب أُمِّيٌّ، لأَن الكِتابة هِيَ مُكْتسَبَةٌ فكأَنه نُسِب إِلَى مَا يُولد عَلَيْهِ أَيْ عَلَى مَا وَلَدَته أُمُّهُ عَلَيْهِ، وَكَانَتِ الكُتَّاب فِي الْعَرَبِ مِنْ أَهل الطَّائِفِ تَعَلَّموها مِنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الحِيرة، وأَخذها أَهل الْحِيرَةِ عَنْ أَهل الأَنْبار. وَفِي الْحَدِيثِ: إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُب وَلَا نَحْسُب؛ أَراد أَنهم عَلَى أَصل وِلَادَةِ أُمِّهم لَمْ يَتَعَلَّموا الكِتابة والحِساب، فَهُمْ عَلَى جِبِلَّتِهم الأُولى، وَفِي الْحَدِيثِ: بُعِثتُ إِلَى أُمَّةٍ أُمِّيَّة؛ قِيلَ لِلْعَرَبِ الأُمِّيُّون لأَن الكِتابة كَانَتْ فِيهِمْ عَزِيزة أَو عَديمة؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ"[2].
وقال ابن سيده: "الْأُمِّيُّ: هو على خلقة الأمَّة، لم يتعلم الكتاب فهو على جِبِلَّتِهِ"[3].
وفي المصباح المنير: "وَالْأُمِّيُّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الَّذِي لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ فَقِيلَ نِسْبَةٌ إلَى الْأُمِّ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ مُكْتَسَبَةٌ فَهُوَ عَلَى مَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ مِنْ الْجَهْلِ بِالْكِتَابَةِ وَقِيلَ نِسْبَةٌ إلَى أُمَّةِ الْعَرَبِ لِأَنَّهُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ أُمِّيِّينَ"[4]، ويكاد يجمع المفسرون أيضًا على أن الأمي هو من لا يحسن القراءة ولا الكتابة.
قال الإمام الطبري: ما يعرف من كلام العرب المستفيض بينهم، أن "الأمي" هو الذي لا يكتب، ثم قال: وأرى أنه قيل للأمي: "أمي"؛ نسبة له بأنه لا يكتب إلى "أمه"؛ لأن الكتاب كان في الرجال دون النساء، فنسب من لا يكتب ولا يخط من الرجال - إلى أمه - في جهله بالكتابة، دون أبيه، كما ذكرنا عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب"، وكما قال: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾ [الجمعة: 2][5].
وقال الإمام الواحدي: "﴿ الذين يتبعون الرسول النبيَّ الأميَّ ﴾، وهو الذي لا يكتب ولا يقرأ، وكانت هذه الخلَّة مؤكِّدة لمعجزته في القرآن"[6].
وقال الإمام الرازي: "فالعرب أكثرهم ما كانوا يكتبون ولا يقرؤون، والنبي عليه الصلاة والسلام كان كذلك، فلهذا السبب وصفه بكونه أميًّا، قال أهل التحقيق: وكونه أميًّا بهذا التفسير كان من جملة معجزاته وبيانه من وجوه: الأول: أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ عليهم كتاب الله تعالى منظومًا مرة بعد أخرى من غير تبديل ألفاظه، ولا تغيير كلماته، والخطيب من العرب إذا ارتجل خطبة ثم أعادها، فإنه لا بد أن يزيد فيها وأن ينقص عنها بالقليل والكثير، ثم إنه عليه الصلاة والسلام مع أنه ما كان يكتب، كان يقرأ يتلو كتاب الله من غير زيادة ولا نقصان ولا تغيير، فكان ذلك من المعجزات وإليه الإشارة بقوله تعالى: ﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى ﴾ [الأعلى: 6]، والثاني: أنه لو كان يحسن الخط والقراءة، لصار متهمًّا في أنه ربما طالع كتب الأولين، فحصل هذه العلوم من تلك المطالعة، فلما أتى بهذا القرآن العظيم المشتمل على العلوم الكثيرة من غير تعلم ولا مطالعة، كان ذلك من المعجزات"[7].
ولو تتبَّعنا معظم ما كتبه المفسرون في تفسير (الأمي)، فإننا لا نجدهم يخرجون عن هذا التفسير، ومع ذلك يحاول المتشككون أن يأتوا بتفسيرات بعيدة غريبة لكلمة (الأمي) مثل أنه منسوب إلى أم القرى، أو أنه منسوب إلى الأمة، فهل من يدعي أن هذا هو المعنى الحقيقي لكلمة (أمي)، أعلم من علماء اللغة العارفين بمعانيها، أو أعلم من المفسرين الذين يكادون يتفقون على أن معنى (الأمي) أنه هو الذي لا يقرأ ولا يكتب، فهل خفي عن كل هؤلاء العلماء المعنى الحقيقي لكلمة (أمي) طيلة هذه السنين، حتى يأتي هذا المتشكك لكي يكشف النقاب عن معناها الحقيقي؟ إن هذا لشيء في منطق العقول عجيب.
ثم ما الفائدة من هذه النسبة؟ إنه من المعلوم أن الإنسان عندما ينسب إلى مكان، فإنه يُنسب إليه لكي يعرف به، ويميزه عمن سواه، كأن يقال: مكي، أو مصري، أو بغدادي، فهل هذه النسبة (أمي) أضافت شئيًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم يُميزه عن غيره، وهل لو سمعها إنسان يمكن أن يدور بخلده أن المقصود نسبته إلى أم القرى، ما الذي يعلم هذا الإنسان أن المقصود أم القرى، وليس مثلًا الأم أو الأمة؟ إن النسب يكون إلى شيء معروف، لا إلى شيء غامض كهذا، فضلًا عن أن هذه النسبة لم تكن مشهورة عند العرب، ولم يعرف في كتب التاريخ أن أيًّا من العرب كان نسبه أمي نسبة لأم القرى.
وما قيل في النسب إلى أم القرى يقال أيضًا في النسب إلى أمة، ما الفائدة من وراء هذه النسبة، وكل إنسان في العالم يمكن أن يُنسَب إلى كلمة الأمة؛ لأنه يعيش وسط أمته التي يوجد فيها، فهذا ليس خاصًّا برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يصح أن ينسب إليها، ويكون علمًا عليه.
2- قوله تعالى: ﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ [العنكبوت: 48].
فهذه الآية واضحة تمام الوضوح، فالله عز وجل يقول له: إنك يا محمد صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليك القرآن لم تكن عندك المقدرة أن تقرأ كتابًا، أو تكتبه بيدك، ولو كانت عندك هذه المقدرة، لتشكك المتشككون في القرآن الكريم، وقالوا: إنه من تأليف محمد صلى الله عليه وسلم؛ حيث نقله من الكتب السابقة التي قرأها واطلع عليها، سبحان الله وقد وقع بالفعل ما توقعه القرآن الكريم؛ حيث كثر الطعن في القرآن الكريم، وأكثر ما وُجِّه إليه من طعن أنه منقول من كتب الأولين، إن هذه الآية في حد ذاتها معجزة كبيرة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث وقع بالفعل ما ذكره القرآن الكريم، وسيظل يقع طالَما كان هناك معادون للقرآن متشككون فيه، والرد عليهم هو نفسه ما ذكره القرآن، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أميًّا، فلم يقرأ في حياته كتابًا، ولم يخطه بيمينه، فكيف إذًا يأتي بهذا القرآن الكريم؟
فهذا نفي صريح واضح لعدم معرفته بالقراءة والكتابة، وهذا المعنى يكاد أيضًا يجمع عليه المفسرون، وها هو الإمام البغوي يفسر الآية فيقول: "وما كنت تتلو يا محمد من قبله من كتاب، يعني من قبل ما أنزلنا إلى الكتاب، ولا تخطه بيمينك، يعني ولا تكتبه يعني لم تكن تقرأ ولا تكتب قبل الوحي، إذا لارتاب المبطلون، يعني لو كنت تقرأ أو تكتب فبل الوحي لشك المبطلون المشركون من أهل مكة، وقالوا: إنه يقرؤه من كتب الأولين وينسخه منها، قاله قتادة"[8].
وقال الطاهر ابن عاشور: "هذا استدلال بصفة الأمية المعروف بها الرسول صلى الله عليه وسلم ودلالتها على أنه موحى إليه من الله أعظم دلالة، وقد ورد الاستدلال بها في القرآن في مواضع؛ كقوله: ﴿ مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ ﴾ [الشورى: 52]، وقوله: ﴿ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [يونس: 16]. ومعنى: ما كنت تتلو من قبله من كتاب أنك لم تكن تقرأ كتابًا، حتى يقول أحد: هذا القرآن الذي جاء به هو مما كان يتلوه من قبلُ، ولا تخطه أي لا تكتب كتابًا ولو كنت لا تتلوه، فالمقصود نفي حالتي التعلم، وهما التعلم بالقراءة والتعلم بالكتابة استقصاء في تحقيق وصف الأمية، فإن الذي يحفظ كتابًا، ولا يعرف يكتب لا يعد أميًّا كالعلماء العمي، والذي يستطيع أن يكتب ما يلقى إليه، ولا يحفظ علمًا لا يعد أميًّا مثل النساخ، فبانتفاء التلاوة والخط تحقق وصف الأمية" [9].
ولو ظللنا ننقل ما قاله المفسرون في أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أميًّا، لطال الكلام جدًّا، ولكن يكفى ما ذكرنا فهو أدل على المراد، وأوفى بالمقصود.
3- قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ [طه: 114]، وقوله تعالى: ﴿ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ﴾ [القيامة: 16 - 18].
تدل هاتان الآيتان على أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان جبريل ينزل عليه بالوحي كان يردد خلفه الآيات قبل أن يكمل جبريل تلاوة هذه الآيات الموحَى بها خشية أن ينساها، فنهاه الله عز وجل عن ذلك، وقال له: يا محمد لا تتعجل القراءة خشية النسيان، فإنا سوف نعينك على حفظه، وسنجمعه لك في قلبك فلا تنساه.
وموطن الشاهد هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان يقرأ ويكتب، لكتب هذا الوحي حتى يراجعه ويحفظه بعد ذهاب جبريل بدل أن يردِّد خلفه خشية النسيان، لكن لما فعل ذلك دل على أنه أمي، وكان كل اعتماده على حفظه وليس على قراءة من كتاب.
4- من أكبر الأدلة أيضًا على أمية النبي صلى الله عليه وسلم: حديث بدء الوحي الذي رواه الإمام البخاري عن السيدة عائشة رضي الله عنها حيث قالت: (أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبِّب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه وهو التعبد الليالي أولات العدد قبل أن يرجع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فتزوده لمثلها حتى جاءه الحق، وهو في غار حراء، فجاءه الملك، فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، فقال لي اقرأ، قال: قلت ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطَّني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق حتى بلغ ما لم يعلم، قال: فرجع بها ترجف بوادره حتى دخل على خديجة، فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الريع ...) [10].
فالحديث يظهر بما لا يدع مجالًا للشك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان لا يقرأ ولا يكتب، بدليل قوله لجبريل: ما أنا بقارئ؛ أي: لا أعرف القراءة ولا أجيدها، فكيف أقرأ؟ ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم قارئًا، لقال لجبريل: ماذا أقرأ؟ قد يقول قائل: ما دام النبي صلى الله عليه وسلم لا يقرأ، فلماذا أمر الله عز وجل جبريل أن يقول له: اقرأ، مع أنه سبحانه وتعالى يعلم أنه لا يقرأ؟ والجواب عن ذلك من أربعة وجوه:
أ- أنه من قبيل مؤانسة النبي صلى الله عليه وسلم، وإذهاب الوحشة عنه، فجبريل قد فاجأ النبي صلى الله عليه وسلم في الغار، وقد أصاب النبي صلى الله عليه وسلم فزع من هول المفاجأة، وهذا يتطلب محاورة من جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم حتى يسكن فؤاده، ويهدأ روعه، وهذا يقع مثله في حياتنا كثيرًا، أن نبدأ حوارًا مع من يشعر بالخوف والوحشة منا حتى يذهب خوفه، وتزول وحشته.
ب- أنه من قبيل تشويق النبي صلى الله عليه وسلم لما سيلقى عليه من وحي، فعندما يقول له اقرأ ثم يسكت، ثم يكرر له الأمر بالقراءة، هنا ستتطلع نفس النبي صلى الله عليه وسلم، وتتشوَّق للمقصود من وراء الأمر بالقراءة، ما هو؟ وما هو أهميته؟ ولماذا يكرِّر جبريل الأمر به؟ عندها يأتي الجواب: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴾ [العلق: 1، 2]، عندها يستشعر محمد صلى الله عليه وسلم عظمة ما يلقى عليه، وأنه ليس كلامًا عاديًّا، وإنما هو كلام سيتضح له فيما بعد أنه كلام الله المنزل عليه.
ج- أن هذه المحاورة كان المقصود منها أن يظهر جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم أنه بالفعل يكلم شخصًا واقفًا أمامه، وأن هذا ليس من قبيل الوهم أو الأحلام، وهذا هو المقصود أيضًا من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني)، أي: أن جبريل احتضن النبي صلى الله عليه وسلم بقوة ثم تركه، وفعل به ذلك أكثر من مرة؛ لكي يوضح له أن الأمر حقيقي، وأنه يكلم بالفعل شخصًا يقف أمامه.
د- أن جبريل بدأ مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (اقرأ)؛ لأن الآية التي نزل جبريل بها تبدأ أصلًا بهذا الفعل، وهي (اقرأ باسم ربك الذي خلق)، فليس مقصود جبريل أن يقرأ النبي صلى الله عليه وسلم أي شيء مكتوب أمامه، وإنما المقصود أن يعلمه أن أول آية نزلت عليه، والتي ستكون مفتتحًا للوحي هي (اقرأ باسم ربك الذي خلق).
5- من الدلائل أيضًا على أمية النبي صلى الله عليه وسلم ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا، وعقد الإبهام في الثالثة، والشهر هكذا وهكذا يعني تمام ثلاثين) [11].
فهنا يُقر النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه أنه أمي ضمن أمة أمية، فهو شمل نفسه مع أمته بهذا الوصف فقال: إنا أمة أمية، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ ويكتب، لقال: إن أمتي أمة أمية، فهل بعد إقرار النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه أنه أمي يأتي معترض لينفي أميته صلى الله عليه وسلم؟
قد يقول قائل من الملحدين والمتشككين: أنا لا أصدِّق بكل هذه الأدلة النقلية؛ لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو الذي ألَّفها - حاشا لرسول الله أن يفعل ذلك - وهو الذي ألَّف القرآن، ووصف نفسه فيه بالأمي حتى يوهم الناس أنه نبي؛ لأنه أتى بالقرآن وهو أمي وهو في الحقيقة لم يكن أميًّا، والجواب عن هذا سهل ميسور: فلو كان محمد صلى الله عليه وسلم يقرأ ويكتب لاشتَهر بين الناس بذلك، ولعرَفوا أنه قارئ وكاتب، وخاصة في أمة أمية مثل العرب؛ حيث كان من يقرأ ويكتب فيها رجالًا قلائلَ جدًّا، ففي مثل هذه البيئة الأمية يكون القارئ والكاتب فيها معروفًا لدى الكافة، مشهورًا عند العامة، وخاصة إذا كان يعمل بالتجارة مثل النبي صلى الله عليه وسلم الذي عمل في تجارة خديجة ردحًا من الزمن، إذا لو أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعي أنه أمي - وحاشاه - لم يكن ذلك بالإمكان، فضلًا عن أن ينسبه إلى الله عز وجل على أنه من كلامه في القرآن الكريم، لذلك كان وصف القرآن له بأنه أمي كان مطابقًا للواقع، موافقًا للحقيقة بلا أدنى امتراء أو شك.
6- الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن البراء بن عازب عن صلح الحديبة؛ حيث قال: "إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَعْتَمِرَ أَرْسَلَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ يَسْتَأْذِنُهُمْ لِيَدْخُلَ مَكَّةَ، فَاشْتَرَطُوا عَلَيْهِ أَنْ لاَ يُقِيمَ بِهَا إِلَّا ثَلاَثَ لَيَالٍ، وَلاَ يَدْخُلَهَا إِلَّا بِجُلُبَّانِ السِّلاَحِ، وَلاَ يَدْعُوَ مِنْهُمْ أَحَدًا، قَالَ: فَأَخَذَ يَكْتُبُ الشَّرْطَ بَيْنهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَكَتَبَ هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالُوا: لَوْ عَلِمْنَا أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ لَمْ نَمْنَعْكَ وَلَبَايَعْنَاكَ، وَلكِنِ اكْتُبْ هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ: «أَنَا وَاللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَنَا وَاللَّهِ رَسُولُ اللَّهِ»، قَالَ: وَكَانَ لاَ يَكْتُبُ، قَالَ: فَقَالَ لِعَلِيٍّ: «امْحَ رَسُولَ اللَّهِ» فَقَالَ عَلِيٌّ: وَاللَّهِ لاَ أَمْحَاهُ أَبَدًا، قَالَ: «فَأَرِنِيهِ»، قَالَ: فَأَرَاهُ إِيَّاهُ فَمَحَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ000 الحديث
ففي هذا الحديث صرح البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يكتب، لذلك لما رفض علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يمحو كلمة (رسول الله)، قال له النبي صلى الله عليه وسلم أرني مكانها، فأراه علي بن أبي طالب مكانها، فمحاها النبي صلى الله عليه وسلم بيده.
فهل هناك دليل أعظم من هذا الدليل على أمية النبي صلى الله عليه وسلم؟ هل لو كان النبي يحسن القراءة والكتابة هل كان سيقول لعلي رضي الله عنه أرنى مكانها، هذا بالإضافة إلى تصريح البراء بن عازب الواضح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يكتب، وهذا هو أحد صحابته المقربين، ومن أعرف الناس به وبأحواله.
7- أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم اتخذ لنفسه كتابًا يكتبون الوحي، ولم يذكر التاريخ أنه صلى الله عليه وسلم قام بكتابة الوحي بنفسه ولو لمرة واحدة، ولو كان يجيد القراءة والكتابة لفعل ذلك ونقل عنه، ومما يؤكد هذا ما رواه البَرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حيث يَقُولُ: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿ لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [النساء: 95]، دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدًا، فَجَاءَ بِكَتِفٍ فَكَتَبَهَا، وَشَكَا ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ ضَرَارَتَهُ، فَنَزَلَتْ: ﴿ لاَ يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ﴾ [النساء: 95] ، فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ ويكتب لماذا بعث إلى زيد رضي الله عنه لكي يأتي له ليكتب هذه الآية.
8- الشهرة المستفيضة عند كافة العلماء أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان أميًّا، حتى يكاد أن يكون إجماعًا بينهم، نرى ذلك عند علماء اللغة، وأصحاب الحديث، والمفسرين، وأصحاب السير، فهل يعقل أن يكون كل هؤلاء قد خفيت عليهم الحقيقة، وأنهم كانوا يعتقدون وهمًا، حتى أتى هؤلاء المتشككون بعد هذه السنين المتطاولة، ليصححوا خطأهم، ويظهروا لهم ما خفي عليهم.
هذه هي أهم الدلائل على أمية النبي صلى الله عليه وسلم، وهي واضحة ظاهرة لا تحتمل شكًّا أو تأويلًا، ولكن أبى الملحدون والمتشككون إلا أن يشغبوا ببعض المشاغبات، ويأتوا ببعض الاعتراضات، ويتمسكوا ببعض ما يتوهمونه دليلًا على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ ويكتب، ومن ذلك قوله: ﴿ وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾ [الفرقان: 5]، فيقول هؤلاء المتشككون: ها هم كفار قريش يصرحون بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد كتب القرآن من الكتب السابقة؛ لذلك لم يؤمنوا به لعلمهم أنه غير صادق في دعوته.
والجواب على ذلك: أن كفار مكة كانوا معاندين للنبي صلى الله عليه وسلم في دعوته، وناصبوه من أجلها العداء، لذلك من الطبيعي أن يرموه بكل كذب، ويصموه بكل بهتان، ولم يقتصر كذبهم على هذا الافتراء، بل قالوا عنه أنه ساحر، وكاهن، وشاعر مجنون، إلى غير ذلك من الافتراءات والأكاذيب، لذلك شهادة الكافرين عليه صلى الله عليه وسلم مردودة؛ لأنهم ألدُّ أعدائه، وإذا كانت شهادة العدو على عدوه غير مقبولة في أعراف الناس، ولا يؤخذ بها في إثبات الحق، فكيف تقبلونها في أمر هو أخطر الأمور على الإطلاق، وهو إثبات النبوة التي مدار سعادة الدنيا والآخرة عليها.
ما سبق ذكره كان على فرض أن كفار مكة بالفعل ادَّعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب القرآن بيده ونسخه من الكتب السابقة، لكن عندما نُنعم النظر في الآية الكريمة يتبيَّن لنا أن كفار مكة ادَّعوا أن القرآن كُتب للنبي صلى الله عليه وسلم، بمعنى أنه أمر كاتبًا أن يكتب له القرآن، وينسخه له من الكتب السابقة، وهذا ما يدل عليه معنى الفعل (اكتتب)، فهذه الصيغة تدل على التكلف والافتعال؛ أي: إن النبي صلى الله عليه وسلم تكلف من يكتُب له هذا القرآن، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم بالفعل هو الذى كتب القرآن بيده، لقال كفار مكة: وقالوا أساطير الأولين كتبها، بدل الفعل (اكتتبها)، ثم ادعى كفار مكة بعد ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، كان يأمر من يكتب له أن يقرأ عليه ما نسخه حتى يحفظه ويبلغه أصحابه على أنه وحي من الله عز وجل، وهذا هو معنى قوله: ﴿ فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾، وهذا كله يدل على أن كفار مكة ما قالوا ذلك إلا لعلمهم أنه أمي واشتَهر هذا عندهم؛ لذلك عندما افتروا عليه قالوا: أنه تكلف في إيجاد أشخاص كاتبين يكتبون له هذا القرآن، ثم يقرؤون عليه بعد ذلك ما نسخوه بأيديهم بكرةً وأصيلًا ليحفَظه.
يقول الطاهر ابن عاشور: "والاكتتاب: افتعال من الكتابة، وصيغة الافتعال تدل على التكلف لحصول الفعل؛ أي حصوله من فاعل الفعل، فيفيد قوله: اكتتبها أنه تكلف أن يكتبها، ومعنى هذا التكلف أن النبي عليه الصلاة والسلام لما كان أميًّا كان إسناد الكتابة إليه إسنادًا مجازيًّا، فيؤول المعنى: أنه سأل من يكتبها له؛ أي ينقلها، فكان إسناد الاكتتاب إليه إسنادًا مجازيًّا؛ لأنه سببه، والقرينة ما هو مقرر لدى الجميع من أنه أمي لا يكتب، ومن قوله: فهي تملى عليه لأنه لو كتبها لنفسه لكان يقرأها بنفسه، فالمعنى: استنسخها، وهذا كله حكاية لكلام النضر بلفظه أو بمعناه، ومراد النضر بهذا الوصف ترويج بهتانه؛ لأنه علم أن هذا الزور مكشوف قد لا يقبل عند الناس لعلمهم بأن النبي أمي، فكيف يستمد قرآنه من كتب الأولين، فهيَّأ لقَبول ذلك أنه كتبت له، فاتخذها عنده فهو يناولها لمن يحسن القراءة، فيملي عليه ما يقصه القرآن.
وبالطبع هذا الافتراء بُطلانه يغني عن إبطاله؛ إذ لو كان هذا صحيحًا، فأين هؤلاء الأشخاص؟ ومن هم؟ ولماذا لم ينسب أحد منهم ذلك لنفسه بدل أن ينسبه للنبي صلى الله عليه وسلم، وهل يصح في منطق العقول أن يدَّعي الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذا القرآن من عند الله عز وجل، وهناك أشخاص يعلمون حقيقة الأمر، ويستطيعون في أي وقت أن يبطلوا قوله، ويدحضوا رسالته، فيظهرون الحقيقة أمام الناس بعد ذلك، ولكن مع تهافت هذه الفرية فقد أشاعها الكفار على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا الحقد في القلوب، واللدد في الخصومة تجعل الإنسان يأتي بالعجائب والغرائب التي لا تجد طريقها إلى العقول، ولا سبيلها إلا القلوب.
إذًا ليس في هذه الآية ما يدل مطلقًا على أن الرسول كان يقرأ ويكتب، بل على العكس فيها ما يؤكد أنه كان أميًّا صلى الله عليه وسلم.
ومما اعترضوا به على أمية النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: ﴿ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً ﴾ [البينة: 2]، فقالوا: إن الآية صريحة في أنه يقرأ من صحف أمامه، ولا أدري من أين أتوا بهذا التفسير، فمن المعلوم قطعًا أن القرآن يُقرأ ويُتلى من الصدور، كما يقرأ من الصحف والسطور، فمن قرأ القرآن من حفظه بلا مصحف أمامه يصدق عليه أنه قرأ القرآن وتلاه، وهذا واضح لا يحتاج إلى دليل، لذلك لا متمسك لهم بهذه الآية في التدليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ ويكتب.
ومما اعترضوا به على أمية النبي صلى الله عليه وسلم حديث ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا اشْتَدَّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعُهُ قَالَ: «ائْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لاَ تَضِلُّوا بَعْدَهُ»، قَالَ عُمَرُ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَلَبَهُ الوَجَعُ، وَعِنْدَنَا كِتَابُ اللَّهِ حَسْبُنَا، فَاخْتَلَفُوا وَكَثُرَ اللَّغَطُ، قَالَ: «قُومُوا عَنِّي، وَلاَ يَنْبَغِي عِنْدِي التَّنَازُعُ»، فَخَرَجَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: «إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ، مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ كِتَابِهِ.
فقالوا: هنا طلب النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه أن يأتوه بكتاب ليكتُب لهم، وهذا دليل واضح أنه يكتب.
والرد عليهم في ذلك: أنهم لو كان عندهم علم بأساليب البلاغة العربية، لعلموا أن هذا من قبيل نسبة الفعل إلى سببه أو الآمر به، وهو أسلوب بلاغي اسمه (المجاز العقلي)، فعندما أقول: بنى الأمير المدينة، فبالقطع الأمير لا يقوم بالبناء بنفسه، وإنما يأمر به؛ لذلك نُسب البناء إليه، فكذلك هنا، إذًا معنى: ﴿ ائْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ ﴾: آمر بالكتابة لكم، فنسب النبي صلى الله عليه وسلم فعل الكتابة لنفسه؛ لأنه هو من سيأمر بكتابة هذه الكتاب، ومما يؤكد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مريضًا، وطريح الفراش، وقد غلبه الوجع وهذا هو سبب أن عمر بن الخطاب لم يقبل أن يملي الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب على مَن يكتُبه، كما هو واضح في الحديث، فهل يعقل أن من هذا حاله سوف يكتب بيده كتابًا مطولًا فيه ما يحتاجه المسلمون في أمر دينهم؛ حتى لا يضلوا بعده أبدًا؟ إن هذا شيء مستبعد، ولكن المقبول عقلُا ومنطقُا أن يأتي بكاتب يملي عليه هذا الكتاب.
مما سبق يتبيَّن لنا بالدليل القاطع والبرهان الساطع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أميًّا، وأن أميته هي من أكبر الأدلة على نبوته وصدقه في رسالته صلى الله عليه وسلم.