الأشهر الحرم رسالة سلام للإنسانية.. بقلم - فضيلة الشيخ عبدالمنعم الطاهر
الحمدُ لله نحمدُه ونستعينُه ونتوبُ إليه ونستغفرُه ونؤمنُ به ونتوكلُ عليه ونعوذُ به من شرورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالِنا؛ ونشهدٌ أن لا إلهَ إلا الله وحدَهُ لا شريكَ له وأن محمدًا عبدُه ورسولُه؛ صلى الله عليه وسلم.أما بعدُ:
أولًا: مفهوم الأشهر الحرم
استقبلنا شهرًا عزيزًا كريمًا علينا من الأشهر الحرم ألا وهو شهر رجب، والأشهر الحرم أربعة. هي: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب. وقد ذكرها الله تعالى في قوله: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}(التوبة : 36). وبيَّنَها صلى الله عليه وسلم في قوله :" أَلا إِنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ"(البخاري) .
ومعنى كلمة حرم أي أن هذه الأشهر الحرم لها حرمة وقداسة وعظمة عند الله، والحرمات كثيرة: فيقال للمرأة حرم فلان، أي حلال لزوجها حرام على غيره، والحرم الجامعي، والحرمان الشريفان، وحرم الطريق...وهكذا.
والأشهر الحرم يحرم فيها القتال والسرقة وانتهاك الحرمات كلها، لذلك تضاعف فيها الحسنات كما تضاعف فيها السيئات، لحرمة هذه الأشهر. " قال قتادة: إن الله اصطفى صَفَايا من خلقه، اصطفى من الملائكة رسلًا ومن الناس رسلًا واصطفى من الكلام ذِكْرَه، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلة القدر، فَعَظِّموا ما عظم الله، فإنما تُعَظم الأمور بما عظمها الله به عند أهل الفهم وأهل العقل". (تفسير ابن كثير).
لذلك كان ظلم النفس والغير في هذه الأيام من أعظم الذنوب والآثام؛ لما لها من حرمة كبيرة عند الله تعالى، لذلك أمّن الله تعالى الناس - بل والأرض جميعًا- على أنفسهم وأموالهم في هذه الأيام؛ لكي لا تمتد إليهم يد القتل أو الغدر أو الخيانة أو الإرهاب .
قال ابن كثيرٍ -رحمه الله-: "كان الرجلُ يلقَى قاتلَ أبيه في الأشهُر الحرم فلا يمُدُّ إليه يدَه".
ثانيًا: الأشهر الحرم رسالة سلام للإنسانية
إن الأشهر الحرم رسالة سلام للإنسانية جمعاء، لهذا جاءت الأشهر أربعة، ثلاثة سَرْدٌ وواحد فرد؛ لأجل أداء مناسك الحج والعمرة، فحُرِّم قبل شهر الحج شهر، وهو ذو القعدة؛ لأنهم يقعدون فيه عن القتال، فيذهبون إلى الأراضي المقدسة لأداء فريضة الحج وهم آمنون، وحُرِّم شهر ذي الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون فيه بأداء المناسك وهم آمنون، وحرم بعده شهر آخر، وهو المحرم؛ ليرجعوا فيه إلى نائي أقصى بلادهم آمنين، وحرم رجب في وسط الحول، لأجل زيارة البيت والاعتمار به لمن يقدم إليه ، فيزوره ثم يعود إلى وطنه فيه آمنًا.
إن ديننا هو دين السلام والأمان، دين يحرّم القتال في ثلث العام، ليأمن الناس على حياتهم وعلى أموالهم وأعراضهم، إنها رسالة للعالم وللإنسانية أن هذا الدين دين سلم وسلام، وأمن وأمان، فهلاَّ فقهت البشرية وانتبه عقلاء العالم إلى هذا الدين العظيم!!
إن ارتكاب المعاصي والذنوب وانتهاك الحرمات في هذه الأشهر ظلم بيِّن للنفس، قال تعالى: { فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ }. يقول الإمام القرطبي – رحمه الله – " لا تظلموا فيهن أنفسكم بارتكاب الذنوب، لأن الله سبحانه إذا عظم شيئًا من جهة واحدة صارت له حرمة واحدة، وإذا عظمه من جهتين أو جهات صارت حرمته متعددة فيضاعف فيه العقاب بالعمل السيئ كما يضاعف الثواب بالعمل الصالح، فإن من أطاع الله في الشهر الحرام في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام، ومن أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في شهر حلال في بلد حلال" ، وقد أشار تعالى إلى هذا بقوله تعالى:{ يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً } (الأحزاب: 30). وذلك لأن الفاحشة إذا وقعت من إحدى نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - يضاعف لها العذاب ضعفين، لحرمتهن وجعلهن أمهات للمؤمنين، بخلاف ما إذا وقعت من غيرهن من النساء.
محب آل البيت: ثالثًا: واجب المسلم تجاه الأشهر الحرم
ينبغي على المسلم تجاه الأشهر الحرم عدة أمور- كي يكون من الفائزين في الدارين - من أهما:
تعظيم الشعائر والحرمات: لأن تعظيم الشعائر من تقوى القلوب، قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ } (الحج: 32)، وكذلك تعظيم الحرمات لأن أمرها جاء من الله. قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} (الحج: 30)، وإذا كان الفرد يقدس الأوامر البشرية ولا تسول له نفسه أن يقصر فيها، فمن باب أولى أن يعظم الأوامر الإلهية لكونها صادرة من عظيم، كما قال قتادة:" عَظِّموا ما عظم الله، فإنما تُعَظم الأمور بما عظمها الله به عند أهل الفهم وأهل العقل".( تفسير ابن كثير).
ومنها: أن تكون وقَّافًا عند حدود الله وفرائضه وحرماته: قال صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ اللَّهَ حَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَفَرَضَ لَكُمْ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَتَرَكَ أَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَكِنْ رَحْمَةٌ مِنْهُ لَكُمْ فَاقْبَلُوهَا وَلَا تَبْحَثُوا فِيهَا».( أخرجه الحاكم وصححه). مع التنبيه على أن انتهاك الحرمات زوال لكل حسناتك ولو كانت كالجبال. فَعَنْ ثَوْبَانَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللهِ، صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لاَ نَكُونَ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ، قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهَكُوهَا.(ابن ماجة بسند صحيح).
ومنها: الإكثار من الصيام في هذه الأشهر الحرم: كما قال صلى الله عليه وسلم : «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ».( صحيح مسلم).
ومنها: المسارعة إلى كثرة الحسنات والبعد عن السيئات: وذلك لتضاعف الحسنات والسيئات بسبب شرف الزمان والمكان، فكل سيئة يقترفها العبد تكتب سيئة من غير مضاعفة، لكن تعظم أي تكبر بسبب شرف الزمان أو المكان أو الفاعل، كما ذكر في حق نساء النبي، فالسيئة أعظم تحريمًا عند الله في الأشهر الحرم، والخطيئة في الحرم أعظم لشرف المكان؛ قال ابن القيم رحمه الله:" تضاعف مقادير السيئات لا كمياتها، فإن السيئة جزاؤها السيئة، لكن سيئة كبيرة وجزاؤها مثلها، وصغيرة وجزاؤها مثلها، فالسيئة في حرم الله وبلده وعلى بساطه آكد منها في طرف من أطراف الأرض، ولهذا ليس من عصى الملك على بساط ملكه، كمن عصاه في الموضع البعيد من داره وبساطه." اهـ.( زاد المعاد ).
ومنها: الابتعاد عن الظلم في هذه الأشهر: لقوله تعالى: { فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ }.
والظلم ثلاثة أقسام : ظلم بين الإنسان وبين الله تعالى، وظلم بينه وبين الناس، وظلم بينه وبين نفسه .
فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ الله عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الظُّلْمُ ثَلاثَةٌ، فَظُلْمٌ لا يَغْفِرُهُ الله، وَظُلْمٌ يَغْفِرُهُ، وَظُلْمٌ لا يَتْرُكُهُ، فَأَما الظُّلْمُ الَّذِي لا يَغْفِرُهُ الله فَالشِّرْكُ، قَالَ الله: {إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}، وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي يَغْفِرُهُ فَظُلْمُ العِباَدِ أَنْفُسَهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ، وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لا يَتْرُكُهُ الله؛ فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا ؛ حَتَّى يُدَبِّرُ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ".( البزار بسند حسن).
فعلينا أن نبتعد عن الظلم في هذه الأشهر المباركة، وأن نغتنمها في الطاعة لنكون من الفائزين. يقول أبو بكر البلخي - رحمه الله تعالى-: شهر رجب شهر الزرع، وشهر شعبان شهر السقي، وشهر رمضان شهر الحصاد. أ.ه فمن لم يزرع في رجب، ويسق في شعبان، فكيف يحصد في رمضان؟!!
نسأل الله يبارك لنا في رجب وشعبان، وأن يبلغنا رمضان ،،،،