أنباء اليوم
السبت 21 ديسمبر 2024 07:16 مـ 20 جمادى آخر 1446 هـ
 أنباء اليوم المصرية
رئيس التحريرعلى الحوفي
المشرف على قطاع الإسكان تقدم ورقة عمل وطنية بعنوان الحوكمة.. الاستدامة بالتشريعات وزير الإسكان يتابع موقف تسليم قطع أراضي الإسكان الاجتماعي والمتميز بمدينة حدائق أكتوبر رئيس جامعة المنوفية يعقد لجنة المختبرات والأجهزة العلمية أون لاين وزير الإسكان يختتم جولته بالمرور على بعض الطرق الرابطة بين أكتوبر والشيخ زايد وزير الإسكان يتفقد مشروع التجمع العمراني صن كابيتال محافظ بني سويف يستقبل وزير الأوقاف محافظ بني سويف ووزير الأوقاف يتفقدان بدء تنفيذ أعمال تطوير مسجد السيدة حورية ديربي لندني يجمع بين كريستال بالاس و أرسنال ضمن منافسات البريميرليج جامعة أسيوط : افتتاح ملاعب كلية علوم الرياضة ومركز اللياقة البدنية وقاعة المناقشات الرئيس السيسي يجري زياره تفقدية الي مقر أكاديمية الشرطة مفتي الجمهورية يدين حادث الدهس في مدينة ماجديبورج الألمانية وزير الصحة يوجه بتوفير أماكن انتظار مناسبة للمرضى بمستشفى إهناسيا التخصصي

هكذا قتلوه


 
بقلم- سارة محمد صالح
(لا تقلق أنا بجانبك وأشعر بك جيِّدًا)
طوال حياتي وأنا لا أصدِّق النَّظريَّات سواءً في مجال علم النَّفس أو غيرهُ من مختلف العلوم إلَّا أن يكون قد أقام الباحث «بحثه» وإثبات نظريَّتهُ عن طريق تجربة حقيقيَّة حدثت بالفعل هكذا فقط أصدِّق وأقتنع، وإن حدث وأعجبت بالنَّظريَّة المطروحة وكانت بلا دليل تأكيدي يثبت صحتها؛ أبحث أنا بنفسي عن ما إذا كانت صحيحة أم لا من خلال إيجاد تجربة تثبتها.
- كنت قد قرأت قبل ذلك نظريَّة تقول: (أنَّ عدم فهم الآخر وتقدير مشاعره يحزنهُ) فأعجبتني هذه النَّظريَّة جدًّا فبدأت أبحث عن: (شعور الإنسان في حال عدم تفهُّم الآخرين إلى مشاعره) فحاولت إثبات هذا الكلام بالبحث عن تجربة حدثت بالفعل مع أحدهم؛ لكي تصبح الصُّورة مكتملة الأركان بمعنى: نظريَّة حقيقيَّة ومثبتة بالتَّجربة؛ فما وجدت أمامي أحد يصلح في هذا النِّقاش إلَّا صديقي (عمر)؛ لأنَّهُ يتميَّز بالصِّدق ولديهِ قدرة رائعة على التَّعبير والوصف في أي موضوع، فقد كان صادقًا إلى الحد الَّذي يجعلك تتخيَّل كلماته وكأنَّك ترى مشهدًا أمامك. مبدئيًّا أود أن أعرِّفكم به (عمر) شاب يبلغ من العمر عشرين عامًا، طالب بكلية الهندسة وهو من أعز أصدقائي وأقربهم إلى قلبي مع أنَّ فارق العمر بيني وبينه سبعة عشر عامًا! فعمري أنا سبعة وثلاثون إلا أنَّني -أحبُّهُ كثيرًا- وتعرَّفت عليه في عام 2016 ووقتها كان عمره ستة عشر عامًا وقد جاء إليَّ في معمل التَّحاليل الخاص بي؛ لكي يُجري هذه التَّحاليل Cpc, Alt, Ast, Bilirubin, Creatinie وهى تحاليل كان قد اعتاد عمر فعلها من قبل الذِّهاب لتلقِّي العلاج مباشرةً، فقد كان مصابًا بسرطان الدَّم الليمفاوي الحاد Acute lymphocytic leukemia (ALL) وكان سيذهب في الصَّباح لأخذ هذا النَّوع من العلاج: (ميثوتركسيت Methotrexate) إن كانت نتائج تحاليله طبيعيَّة... وبالفعل ظهرت نتيجة التَّحاليل طبيعيَّة Natural ففرحت كثيرًا وقلت: مبارك يا عمر كل شيء طبيعي والآن يمكنك تجهيز نفسك لتلقِّي علاجك غدًا. فبكى عمر بشدَّة! فقلت: لماذا تبكي يا عمر ونتائج تحاليلك طبيعيَّة؟! فقال: وددت لو أنَّها تكون غير طبيعيَّة؛ لكي أبتعد فترة جيِّدة عن المستشفى. فقلت: معك حق يا عمر العلاج مؤلم جدًّا ولكن عليك احتساب الأجر عند الله. فقال: أنا لا أبكي من ألم العلاج! ولكن أبكي لِمَا أشد منه ألمًا! فتعجَّبت وقلت: وما نوع هذا الألم الَّذي يكون أشد إيلامًا من العلاج؟! فبكى ولم يرد عليَّ ثُمَّ رحل! فحزنت كثيرًا من أجل حزنه وبكائه، وقد كان عمر أمامه بضعة أشهرٍ فقط وينتهي من هذا العلاج... ومن بعدها وعمر أصبح صديقي وإلى عامنا هذا 2020 وأنا ما زلت لم أعرف ما هو الشَّيء الأكثر إيلامًا من هذا العلاج اللعين؟! وكل ما سنحت لي فرصة أن أسأل عمر أتراجع فورًا عن سؤالي؛ لكي لا أذكِّرهُ بهذه المرحلة المؤلمة... المهم اتَّصلت بعمر يوم الثُّلاثاء الماضي؛ لكي أتناقش معه حول (شعور الإنسان في حال عدم تفهُّم الآخرين إلى مشاعره) فطلبت منه أن نخرج لقضاء بعض الوقت سويًّا السَّاعة التَّاسعة بعد صلاة العشاء على النَّيل؛ فوافق... وبالفعل جاء عمر في الموعد ولكنِّي رأيت تغييرًا كبيرًا في ملامح وجهه إلى الحزن والأسى الشَّديد؛ فتراجعت تمامًا عن طرح الموضوع الَّذي طلبت مقابلته من أجله، وسألته عن سبب حزنه هكذا؟ فرفض الإفصاح عن السَّبب وبعد إلحاح شديد منِّي؛ أخبرني أنَّ السَّرطان قد عادَ من جديد. فقلت: يا عمر ما عهدتك إلَّا صابرًا قويًّا محتسبًا فجدِّد قوَّتك واستعن بالله ولا تقلق بشأن آلام العلاج، أنت الآن أصبح لديك تجربة سابقة لذلك ستستطيع التَّعامل مع الألم جيِّدًا. فقال: أنا لست حزينًا بشأن آلام العلاج أنا حزين لِمَا أشد منه ألمًا! فتذكَّرت عندما قال لي عمر نفس الجملة منذ أربع سنوات في معمل التَّحاليل، وقلت في نفسي جاء اليوم الَّذي سيخبرني فيه عمر عن الشَّيء الأكثر إيلامًا من هذا العلاج اللعين... فقلت: هل بإمكانك إخباري الآن عن هذا الشَّيء المؤلم؟ فقال: نعم أعدك أنِّي أخبرك ولكن ليس الآن! ثُمَّ ودَّعني وقال: أنا متعب وأريد أن أنام لذلك سأعود إلى منزلي... وفي صباح اليوم التَّالي جاءني اتِّصال من والد عمر يخبرني (بوفاته) وقال: عمر كان قد كتب لك ورقة منذ أربع سنوات عندما كان -يتعالج كيميائيًّا- وأوصى بإعطائها لك بعد وفاته وأن لا يفتحها أحدٌ غيرك. صدمت من الخبر ولكنِّي تماسكت جيِّدًا وقلت: «إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون» وجهَّزت نفسي سريعًا؛ لكي أذهب لحضور جنازة عمر وأودِّعهُ وداعًا أخيرًا. وفور وصولي؛ أعطاني والد عمر الورقة وكانت بداخل ظرف محكم الغلق، فوضعتها في جيبي ولم أفكِّر بفتحها إلَّا عندما أنتهي من وداع عمر... فسألت والد عمر عن تقرير الطَّبيب الشَّرعي لسبب وفاته. فقال: التَّقرير أوضح أن وفاة عمر بسبب (نوبة قلبيَّة Heart attack)
- ظنَّ الجميع أنَّ الجلطة الَّتي أصابت عمر؛ بسبب حزنه وخوفه من آلام العلاج الكيميائي، ولكنِّي أنا فقط الَّذي أعرف أنَّ حزن عمر ليس بسبب آلام العلاج إطلاقًا فهناك شيءٌ آخر أشدُّ إيلامًا من العلاج كما أخبرني عمر أمس وأيضًا كما أخبرني ذلك منذ أربع سنوات... وبعد قضاء يومٍ قاسٍ ومؤلم في وداع عمر؛ ذهبت إلى مكتبي وفتحت الظَّرف لأقرأ الورقة وكان مكتوب فيها (إليك أكتب آلامي يا صديقي «دكتور أنس» فأنت الوحيد في هذا العالم الَّذي حاول أن يعرف سبب دموعي وحزني وأردت أن تتفهَّم حقيقة مشاعري عندما أصررت أن تعرف الشَّيء الأكثر إيلامًا من العلاج الكيميائي، أثناء العلاج اضطَّر الأطبَّاء إلى تركيب قسطرة وريديَّة مركزيَّة Central venous catheter (CVP) في الرَّقبة وبعد عشرة أيَّام من تركيبها؛ أصابني ارتفاع شديد في درجة الحرارة فجاء دكتور أمير ليكشف؛ كي يعرف سبب ارتفاع الحرارة. فقال: ليس لديك أي أسباب تسبِّب ارتفاع درجة الحرارة، في هذه الحالة قد يكون السَّبب من جهاز الـ CVP إنزع الطَّاقية والكوفيَّة؛ كي أرى هل يوجد التهابًا سبَّب لك ارتفاع الحرارة أم لا. فقلت: سأنزع الكوفيَّة فقط لكن لن أنزع الطَّاقية وبالتَّالي ستظهر رقبتي وهو المكان الَّذي تريده. فقال بصوتٍ عالٍ: قلت لك إنزع الاثنين معًا. فقلت: لا لن أستطيع فعل ذلك. فغضب دكتور أمير وحاول نزع الطَّاقية بالقوَّة من على رأسي ولكنِّي أمسكت بها جيِّدًا، وقتها انهمرت دموعي وارتعش جسدي وعلا صوتي وأنا أبكي وأقول: لا أريد فعل ذلك.. لا أريد.. لا أريد. فخرج دكتور أمير مسرعًا وهو غاضبًا... حقيقةً لا أعرف ما هذه القسوة؟! كيف يريد دكتور أمير نزع غطاء رأسي وأنا شعري كان قد أسقطهُ العلاج؟! قد يرى البعض أنَّ تساقط الشَّعر لا يفرق كثيرًا مع الرِّجال! ولكن مشاعر النَّاس مختلفة ولكل شخص شعوره الخاص به تجاه أي موقف بمعنى: ما يحزنك قد لا يحزن غيرك، وما يسعدك قد لا يسعد غيرك، وما يقلقك قد لا يقلق غيرك، وما يخيفك قد لا يخيف غيرك، و... و... إلى آخره. لم يسألني دكتور أمير عن سبب رفضي لنزع الطَّاقية! ولم يحاول فهمي! أراد فقط أن يفرض سيطرته بدون مراعاة مشاعري! وأصلًا مكان الطَّاقيَّة ليس له علاقة بمكان الالتهاب وبعيدًا تمامًا عنه! وحتَّى وإن كان الأمر ضروريًّا فكان عليه إقناعي، ومحاولة تهدأتي، والوصول إلى طبيعة مخاوفي وطمأنتي، هكذا يجب أن يكون الطِّبيب «فالطِّب مهنة إنسانيَّة» هذا ليس الموقف الوحيد ولو أنَّهُ كان موقف عابرًا ولن يتكرَّر لكان -الموضوع سهلًا- بمعنى جرح في النَّفس وسيلتئم مع مرور الوقت، ولكن كان يتكرَّر أثناء الكشف مثل هذا الموقف كثيرًا من باقي الأطبَّاء المتابعين لحالتي ولكن بشكلٍ مختلف، آسف يا دكتور أنس لو أزعجتك بإطالة الحديث ولكن أردت أن أشرح لك بالتَّفصيل أنَّ (عدم الشُّعور بالآخر) هو الشَّيء الأكثر إيلامًا من العلاج الكيميائي، وها أنا الآن قد انتهيت من كتابة رسالتي إليك في اليوم السَّابع من سبتمبر من عام 2016 ولا أعلم في أي وقتٍ وأي عامٍ ستقرؤها؟ فقد أوصيت أهلي بأن يعطوها لك بعد وفاتي؛ لأنَّ الحديث عن هذا الموضوع يؤلمني كثيرًا ولم أكن أريد أن أحكيه لأحدٍ؛ كي لا يناقشني فيه فلم أجد وقتًا مناسبًا للإجابة عن سؤالك إلَّا وأنا ميت.
- والآن قد انتهيت من قراءة ما كتبه عمر إليَّ وأنا في ذهولٍ شديد! فعمر لم يجيب على سؤالي وحسب! بل أثبت لي قدرًا أنَّ نظريَّة (عدم فهم الآخر وتقدير مشاعره يحزنه) ناقصة وغير مكتملة، والنَّظرية الكاملة الصَّحيحة هى: (أنَّ عدم فهم الآخر وتقدير مشاعره يحزنه وقد «يقتلهُ» حتَّى ولو بعد حين).
- حقيقةً لا أعرف أين ذهبت ثقافة «فهم الآخر» وتخيُّل مشاعره وتحليل ردود أفعاله بطريقة إيجابيَّة سليمة تجاه أي موقف؟! لماذا لا نحاول معرفة الأسباب الَّتي تجعل الآخر يتصرَّف بطريقة لا تروق لنا؟! لماذا يفتقد البعض تقدير الأمور بالشَّكل الصَّحيح والحقيقي بلا -تهوُّر أو تعجُّل- يجعله يتسرَّع في إطلاق الأحكام أو أي شيءٍ جارح؟!
- هكذا قتلوا عمر -فرحل عن عالمنا- رحل مأنونًا مجروحًا موجوعًا، رحل جراء نوبة قلبيَّة؛ بسبب الحزن الشَّديد من أشخاص يفتقدون الفهم الصَّحيح والإدراك، ولديهم قدرة خارقة من الَّامبالاة وعدم الشُّعور بالآخر! نعم قدرة خارقة قد تصل لإنهاء حياة إنسان.





ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏‏‏شخص أو أكثر‏، ‏أشخاص يقفون‏‏، ‏‏محيط‏، ‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏‏‏ و‏ماء‏‏‏