شمس الدين والدنيا.. بقلم - محمد فاروق
أتشرف اليوم بالحديث عن علم من أعلام الإسلام وأحد أبرز الشخصيات الإسلامية على مر التاريخ إنه شمس الدين محمد بن أبي بكر الزرعي واشتهر بلقب ابن القيم نسبة إلى عمل أبيه كقيم ( ناظر ) لمدرسة الجوزية بدمشق فعرف بلقب ابن قيم الجوزية ثم اختصرت الى ابن القيم.
تتلمذ ابن القيم على يد والده في البداية ثم تتلمذ على كبار علماء عصره ولما شبَّ كثر اتصاله بشيخ الاسلام ابن تيمية وظل ينهل من علمه ويتقفى اثره والتزم بمنهجه في الفتوى حيث لم يلتزم بمذهب محدد ولكنه استحضر الدليل من الكتاب والسنة. وسُجن ابن القيم مع شيخه بسبب فتواهم بعدم الجواز لشد الرحال الى القبور.
وبعد وفاة ابن تيمية في السجن تم اطلاق سراح تلاميذه فقام ابن القيم بالسير علي درب معلمه واخذ يدرس لتلاميذه وعقد حلقات العلم لطلابه فتتلمذ على يديه أشهر علماء المسلمين ، قام بالتأليف في الفقه والعقيدة والتفسير والحديث .
قال عنه تلميذه ابن كثير في كتابه البداية والنهاية " كان ودودا وطيب القلب لم يحسد أحداً ولم يضر أحداً ولم يجرح أحداً كما أنني لا أعرف أحداً أكثر تقوى منه في عبادته في زماننا " ، أما تلميذه الحافظ بن رجب فيقول عنه " كان عالماً بارعاً في العلوم الإسلامية ولم يستطع أحد أن ينافسه في فهمه العميق للقرآن والحديث النبوي فكانت تأويلاته فريدة في الدقة " .
وقال عنه الحافظ بن حجر العسقلاني: (لو لم يكن للشيخ تقي الدين بن تيمية من المناقب إلا تلميذه الشيخ شمس الدين بن قيم الجوزية صاحب التصانيف النافعة السائرة التي انتفع بها الموافق والمخالف، لكان غاية في الدلالة على عظمة منزلته)
ألف ابن القيم كثير من المصنفات, و اشتهرت مصنفاته بشكل كبير وعددها (98) مؤلف فضلاً عن كونه شاعراً ولعل نونية ابن القيم المكونة من ستة آلاف بيت في الشوق الى الجنة والحث على سبيلها هي أشهر ما كتب في الشعر.
عُرف ابن القيم بزهده وعبادته؛ وخشيته من الله -تعالى-، ويقينه بالله، وافتقاره إليه، وظهر ذلك جليًّا في مؤلفاته، فقد كان زاهدًا في الدنيا، وراغبًا فيما عند الله -تعالى-، وكان يظهر أنّ إيمانه قد نشأ عن فهم للدين الإسلامي، وحبّه له، كما كان مجتهدًا في العبادة، وكثير الطاعات. ولم يكن صلاح ابن القيم يقتصر على علاقته بالله -تعالى-، فقد كان صالحًا في دنياه، حيث اتّصف بإحسانه إلى الناس، وبخُلقه الحسن في تعامله معهم، وكان مثالًا في الصدق ونموذجًا من نماذج الصلاح والتقوى، وهو من العلماء الذين علّموا الدين، وعملوا به. ومن أمثلة زهد ابن القيم في الدنيا سبب تأليفه لكتاب تحفة المودود، حيث جاء أنّ سبب ذلك أنّ ابنه إبراهيم قد رُزق مولوداً، ولم يكن لدى ابن القيم ما يُعطيه لابن ابنه من متاع الدنيا، فصنف هذا الكتاب وأعطاه إياه، وقال له: "أُتْحِفكُ بهذا الكتاب إذ لم يكن عندي شيء من الدنيا أعطيك". ومن مظاهر زهد ابن القيم وعبادته، كان كثير الصلاة وكان يطيل القيام فيها والركوع والسجود. كان يكثر من قيامه في الليل وتهجده. كان يكثر من تضرعه لله بالدعاء، وابتهاله له، وافتقاره وانكساره إليه. وكان يكثر من ذكره لله تعالى، فقد كان ملازمًا للذكر والاستغفار. وكان يحرص على أداء الحجّ ويكرره في كل عام.
ومن أجمل ما قرأت لابن القيم:
"إن في القلب شعث : لا يلمه إلا الإقبال على الله، وعليه وحشة: لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته، وفيه حزن : لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلق: لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه، وفيه نيران حسرات : لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه ، وفيه طلب شديد: لا يقف دون أن يكون هو وحده المطلوب ، وفيه فاقة: لا يسدها الا محبته ودوام ذكره والاخلاص له، ولو أعطى الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة أبدا!!"
ومن أعجب ما قرأت عن ابن القيم أنه سأله سائل في صلاة الفجر، " ما يقول السادة العلماء في رجل ابتلي ببلية وعلم ان لو استمرت فيه افسدت عليه دنياه وآخرته وقد اجتهد عن دفعها عن نفسه بكل طريق فما تزداد إلا توقداً وشدة فما الحيلة في دفعها والسبيل الى كشفها؟ أفتونا مأجورين"
فكان الجواب في صلاة الظهر بكتاب "الداء والدواء" ألفه في تلك الفترة القصيرة من أجل الرد على سؤال السائل وهو كتاب من أروع الكتب كتاب قيّم في التربية وتزكية النفس وتهذيب السلوك، وقد بيّن ابن القيم أدواء القلوب وعلاجها، وأن القرآن شفاء، وأن الدعاء من أنفع الأدوية، وأسهب في ذكر أضرار الذنوب والمعاصي وتأثيرها، ثم تحدث عن المحبة وأنها أصل كل عمل، وأن الشرك في المحبة خطره عظيم، وبيّن أن العشق من صور الشرك في المحبة، وبيّن خطره وطرق العلاج منه. هذا بعض من كل وقطر من فيض من حياة هذا العالم العامل والزاهد الورع التقي النقى شمس الدين محمد الملقب بابن القيم.